قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتٰبٍ ۖ لَّا يَضِلُّ رَبِّى وَلَا يَنسَى
قَالَ عِلۡمُهَا عِنۡدَ رَبِّىۡ فِىۡ كِتٰبٍۚ لَا يَضِلُّ رَبِّىۡ وَلَا يَنۡسَى
تفسير ميسر:
قال موسى لفرعون; عِلْمُ تلك القرون فيما فَعَلَت من ذلك عند ربي في اللوح المحفوظ، ولا عِلْمَ لي به، لا يضل ربي في أفعاله وأحكامه، ولا ينسى شيئًا ممَّا علمه منها.
فقال له موسى في جواب ذلك هم وإن لم يعبدوه فإن عملهم عند الله مضبوط عليهم وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمار لا يضل ربي ولا ينسى أي لا يشذ عنه شيء ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئا يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط وأنه لا ينسى شيئا تبارك وتعالى وتقدس وتنزه فإن علم المخلوق يعتريه نقصانين أحدهما عدم الإحاطة بالشيء والآخر نسيانه بعد علمه فنزه نفسه عن ذلك.
هذه الآية ونظائرها مما تقدم ويأتي تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى . فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان . وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع فيقيده لئلا يذهب عنه . وروينا بالإسناد المتصل عن قتادة أنه قيل له ; أنكتب ما نسمع منك ؟ قال ; وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب ؛ فقال ; علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى . [ ص; 124 ] وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال ; قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; لما قضى الله الخلق كتب في كتابه على نفسه فهو موضوع عنده ; إن رحمتي تغلب غضبي . وأسند الخطيب أبو بكر عن أبي هريرة قال ; ( كان رجل من الأنصار يجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه الحديث ويعجبه ولا يحفظه ، فشكا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ; يا رسول الله إني أسمع منك الحديث يعجبني ولا أحفظه ؛ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعن بيمينك وأومأ إلى الخط وهذا نص . وعلى جواز كتب العلم وتدوينه جمهور الصحابة والتابعين ؛ وقد أمر - صلى الله عليه وسلم - بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه - رجل من اليمن - لما سأله كتبها . أخرجه مسلم . وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ; قيدوا العلم بالكتابة . وقال معاوية بن قرة ; من لم يكتب العلم لم يعد علمه علما . وقد ذهب قوم إلى المنع من الكتب ؛ فروى أبو نصرة قال ; قيل لأبي سعيد ; أنكتب حديثكم هذا ؟ قال ; لم تجعلونه قرآنا ؟ ولكن احفظوا كما حفظنا . وممن كان لا يكتب الشعبي ويونس بن عبيد وخالد الحذاء - قال خالد ما كتبت شيئا قط إلا حديثا واحدا ، فلما حفظته محوته - وابن عون والزهري . وقد كان بعضهم يكتب فإذا حفظ محاه ؛ منهم محمد بن سيرين وعاصم بن ضمرة . وقال هشام بن حسان ; ما كتبت حديثا قط إلا حديث الأعماق فلما حفظته محوته .قلت ; وقد ذكرنا عن خالد الحذاء مثل هذا . وحديث الأعماق خرجه مسلم في آخر الكتاب ; لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو - بدابق الحديث ذكره في كتاب الفتن . وكان بعضهم يحفظ ثم يكتب ما يحفظ ، منهم الأعمش وعبد الله بن إدريس وهشيم وغيرهم . وهذا احتياط على الحفظ . والكتب أولى على الجملة ، وبه وردت الآي والأحاديث ؛ وهو مروي عن عمر وعلي وجابر وأنس - رضي الله عنهم ، ومن يليهم من كبراء [ ص; 125 ] التابعين كالحسن وعطاء وطاوس وعروة بن الزبير ، ومن بعدهم من أهل العلم ؛ قال الله تعالى ; وكتبنا له في الألواح من كل شيء . وقال تعالى ; ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . وقال تعالى ; واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة الآية . وقال تعالى ; وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر . قال علمها عند ربي في كتاب إلى غير هذا من الآي .وأيضا فإن العلم لا يضبط إلا بالكتاب ، ثم بالمقابلة والمدارسة والتعهد والتحفظ والمذاكرة والسؤال والفحص عن الناقلين والثقة بما نقلوا ، وإنما كره الكتب من كره من الصدر الأول لقرب العهد ، وتقارب الإسناد لئلا يعتمده الكاتب فيهمله ، أو يرغب عن حفظه والعمل به ؛ فأما والوقت متباعد ، والإسناد غير متقارب ، والطرق مختلفة ، والنقلة متشابهون ، وآفة النسيان معترضة ، والوهم غير مأمون ؛ فإن تقييد العلم بالكتاب أولى وأشفى ، والدليل على وجوبه أقوى ؛ فإن احتج محتج بحديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ; لا تكتبوا عني ومن كتب غير القرآن فليمحه خرجه مسلم ؛ فالجواب أن ذلك كان متقدما ؛ فهو منسوخ بأمره بالكتاب ، وإباحتها لأبي شاه وغيره . وأيضا كان ذلك لئلا يخلط بالقرآن ما ليس منه . وكذا ما روي عن أبي سعيد أيضا - حرصنا أن يأذن لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتابة فأبى - إن كان محفوظا فهو قبل الهجرة ، وحين كان لا يؤمن الاشتغال به عن القرآن .قال أبو بكر الخطيب ; ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد ؛ ثم الحبر خاصة دون المداد لأن السواد أصبغ الألوان ، والحبر أبقاها على مر الدهور . وهو آلة ذوي العلم ، وعدة أهل المعرفة . ذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي قال ; رآني الشافعي وأنا في مجلسه وعلى قميصي حبر وأنا أخفيه ؛ فقال لم تخفيه وتستره ؟ إن الحبر على الثوب من المروءة لأن صورته في الأبصار سواد ، وفي البصائر بياض . وقال خالد بن زيد ; الحبر في ثوب صاحب الحديث مثل الخلوق في ثوب العروس . وأخذ هذا المعنى أبو عبد الله البلوي فقال ;[ ص; 126 ]مداد المحابر طيب الرجال وطيب النساء من الزعفرانفهذا يليق بأثواب ذاوهذا يليق بثوب الحصانوذكر الماوردي أن عبد الله بن سليمان فيما حكي ؛ رأى على بعض ثيابه أثر صفرة ؛ فأخذ من مداد الدواة وطلاه به ، ثم قال ; المداد بنا أحسن من الزعفران ؛ وأنشد ;إنما الزعفران عطر العذارى ومداد الدوي عطر الرجالقوله تعالى ; لا يضل ربي ولا ينسى اختلف في معناه على أقوال خمسة ; الأول ; إنه ابتداء كلام ، تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين ، وقد كان الكلام تم في قوله ; في كتاب . وكذا قال الزجاج ، وأن معنى لا يضل لا يهلك من قوله ; أئذا ضللنا في الأرض . ولا ينسى شيئا ؛ نزهه عن الهلاك والنسيان . القول الثاني ; لا يضل لا يخطئ ؛ قاله ابن عباس ؛ أي لا يخطئ في التدبير ، فمن أنظره فلحكمة أنظره ، ومن عاجله فلحكمة عاجله . القول الثالث ; لا يضل لا يغيب . قال ابن الأعرابي ; أصل الضلال الغيبوبة ؛ يقال ; ضل الناسي إذا غاب عنه حفظ الشيء . قال ; ومعنى لا يضل ربي ولا ينسى أي لا يغيب عنه شيء ولا يغيب عن شيء . القول الرابع ; قاله الزجاج أيضا وقال النحاس أشبهها بالمعنى ; - أخبر الله - عز وجل - أنه لا يحتاج إلى كتاب ؛ والمعنى لا يضل عنه علم شيء من الأشياء ولا معرفتها ، ولا ينسى ما علمه منها .قلت ; وهذا القول راجع إلى معنى قول ابن الأعرابي . وقول خامس ; إن لا يضل ربي ولا ينسى في موضع الصفة ل ( كتاب ) أي الكتاب غير ضال عن الله - عز وجل - ؛ أي غير ذاهب عنه . ولا ينسى أي غير ناس له فهما نعتان ل " كتاب " . وعلى هذا يكون الكلام متصلا ، ولا يوقف على كتاب . تقول العرب . ضلني الشيء إذا لم أجده ، وأضللته أنا إذا تركته في موضع فلم أجده فيه . وقرأ الحسن وقتادة وعيسى بن عمر وابن محيصن وعاصم الجحدري وابن كثير فيما روى شبل عنه ( لا يضل ) بضم الياء على معنى لا يضيعه ربي ولا ينساه . قال ابن عرفة ; الضلالة عند العرب سلوك سبيل غير القصد ؛ يقال ; ضل عن الطريق ، وأضل الشيء إذا أضاعه . ومنه قرأ من قرأ لا يضل ربي أي لا يضيع ؛ هذا مذهب العرب .
القول في تأويل قوله تعالى ; قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (51)يقول تعالى ذكره; قال فرعون لموسى، إذ وصف موسى ربه جلّ جلاله بما وصفه به من عظيم السلطان، وكثرة الإنعام على خلقه والأفضال; فما شأن الأمم الخالية من قبلنا لم تقرّ بما تقول، ولم تصدّق بما تدعو إليه، ولم تخلص له العبادة، ولكنها عبدت الآلهة والأوثان من دونه، إن كان الأمر على ما تصف من أن الأشياء كلها خلقه، وأنها في نِعمه تتقلَّب، وفي منَنه تتصرف .
فقال موسى: { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى } أي: قد أحصى أعمالهم من خير وشر، وكتبه في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، وأحاط به علما وخبرا، فلا يضل عن شيء منها، ولا ينسى ما علمه منها. ومضمون ذلك، أنهم قدموا إلى ما قدموا، ولاقوا أعمالهم، وسيجازون عليها، فلا معنى لسؤالك واستفهامك يا فرعون عنهم، فتلك أمة قد خلت، لها ما كسبت،ولكم ما كسبتم، فإن كان الدليل الذي أوردناه عليك، والآيات التي أريناكها، قد تحققت صدقها ويقينها، وهو الواقع، فانقد إلى الحق، ودع عنك الكفر والظلم، وكثرة الجدال بالباطل، وإن كنت قد شككت فيها أو رأيتها غير مستقيمة، فالطريق مفتوح وباب البحث غير مغلق، فرد الدليل بالدليل، والبرهان بالبرهان، ولن تجد لذلك سبيلا، ما دام الملوان. كيف وقد أخبر الله عنه، أنه جحدها مع استيقانها، كما قال تعالى: { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } وقال موسى: { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ } فعلم أنه ظالم في جداله، قصده العلو في الأرض.
(علمها) مبتدأ مرفوع، ومضاف إليه
(عند) ظرف منصوب متعلّق بمحذوف خبر ،
(في كتاب) متعلّق بمحذوف الخبر
(لا) نافية في الموضعين.
جملة: «قال ... » لا محلّ لها استئناف بيانيّ.
وجملة: «علمها عند ... » في محلّ نصب مقول القول.
وجملة: «لا يضلّ ربّي ... » لا محلّ لها استئناف في حيّز القول .
وجملة: «لا ينسى ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة لا يضلّ ربّي.53-
(الذي) اسم موصول مبنيّ في محلّ رفع خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو ،
(لكم) الأول متعلّق بـ (جعل)
(مهدا) مفعول به ثان منصوبـ (لكم) الثاني متعلّق بـ (سلك) ،
(فيها) متعلّق بـ (سلك) ،
(من السماء) متعلّق بـ (أنزل) ،
(الفاء) عاطفة
(به) متعلّق بـ (أخرجنا) و (الباء) للسببيّة
(من نبات) متعلّق بنعت لـ (أزواجا) ،
(شتّى) نعت ثان لـ (أزواجا) منصوب وعلامة النصب الفتحة المقدّرة على الألف.
وجملة: «
(هو) الذي ... » لا محلّ لها استئناف في حيّز القول السابق وجملة: «جعل ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذي) .
وجملة: «سلك ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة الصلة.
وجملة: «أنزل ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة الصلة.
وجملة: «أخرجنا ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة أنزل .