فَغَفَرْنَا لَهُۥ ذٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلْفٰى وَحُسْنَ مَـَٔابٍ
فَغَفَرۡنَا لَهٗ ذٰ لِكَ ؕ وَاِنَّ لَهٗ عِنۡدَنَا لَزُلۡفٰى وَحُسۡنَ مَاٰبٍ
تفسير ميسر:
فغفرنا له ذلك، وجعلناه من المقرَّبين عندنا، وأعددنا له حسن المصير في الآخرة.
وقوله تعالى "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب" أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عز وجل بها وحسن مرجع وهو الدرجات العالية في الجنة لنوبته وعدله التام في ملكه كما جاء في الصحيح " المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يقسطون في أهليهم وما ولوا "وقال الإمام أحمد حدثنا يحي بن آدم ثنا فضيل عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسا إمام عادل وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابا إمام جائر "ورواه الترمذي من حديث فضيل وهو ابن مرزوق الأغر عن عطية به وقال لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة ثنا عبد الله بن أبي زياد ثنا سيار ثنا جعفر بن سليمان سمعت مالك بن دينار في قوله تعالى "وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب " قال يقام داود يوم القيامة عند ساق العرش ثم يقول يا داود مجدني اليوم بذلك الصوت الحسن الرحيم الذي كنت تمجدني في الدنيا فيقول وكيف وقد سلبته ؟ فيقول الله عز وجل إني أرده عليك اليوم قال فيرفع داود عليه الصلاة والسلام بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان.
قوله تعالى ; فغفرنا له ذلك أي فغفرنا له ذنبه . قال ابن الأنباري ; فغفرنا له ذلك تام ، ثم تبتدئ " وإن له " وقال القشيري ; ويجوز الوقف على فغفرنا له ثم تبتدئ ذلك وإن له كقوله ; هذا وإن للطاغين أي الأمر ذلك . وقال عطاء الخراساني وغيره ; إن داود سجد أربعين يوما حتى نبت المرعى حول وجهه وغمر رأسه فنودي ; أجائع فتطعم ، أو أعار فتكسى ، فنحب نحبة هاج المرعى من حر جوفه ، فغفر له وستر بها . فقال ; يا رب هذا ذنبي فيما بيني وبينك قد غفرته ، وكيف بفلان وكذا وكذا رجلا من بني إسرائيل ، تركت أولادهم أيتاما ، ونساءهم أرامل ؟ قال ; يا داود لا يجاوزني يوم القيامة ظلم ، أمكنه منك ثم أستوهبك منه بثواب الجنة . قال ; يا رب هكذا تكون المغفرة الهينة . ثم قيل ; يا داود ارفع رأسك . فذهب ليرفع رأسه فإذا به قد نشب في الأرض ، فأتاه جبريل فاقتلعه عن وجه الأرض كما يقتلع من الشجرة صمغها . رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن عطاء . قال الوليد ; وأخبرني منير بن الزبير ، قال ; فلزق مواضع مساجده على الأرض من فروة وجهه ما شاء الله . قال الوليد قال ابن لهيعة ; فكان يقول في سجوده ; سبحانك هذا شرابي دموعي ، وهذا طعامي في رماد بين يدي . في رواية ; إنه سجد أربعين يوما لا يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ، فبكى حتى نبت العشب من دموعه . وروي مرفوعا من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ; إن داود مكث أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموعه على رأسه ، وأكلت الأرض من جبينه وهو يقول في سجوده ; يا رب ، داود زل زلة بعد بها ما بين المشرق والمغرب ، رب إن لم ترحم [ ص; 167 ] ضعف داود وتغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثا في الخلق من بعده ، فقال له جبريل بعد أربعين سنة ; يا داود ، إن الله قد غفر لك الهم الذي هممت به وقال وهب ; إن داود - عليه السلام - نودي إني قد غفرت لك . فلم يرفع رأسه حتى جاءه جبريل فقال ; لم لا ترفع رأسك وربك قد غفر لك ؟ قال ; يا رب كيف وأنت لا تظلم أحدا . فقال الله لجبريل ; اذهب إلى داود فقل له يذهب إلى قبر أوريا فيتحلل منه ، فأنا أسمعه نداءه . فلبس داود المسوح وجلس عند قبر أوريا ونادى ; يا أوريا ، فقال ; لبيك! من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني ؟ فقال ; أنا أخوك داود ، أسألك أن تجعلني في حل ، فإني عرضتك للقتل . قال ; عرضتني للجنة فأنت في حل . وقال الحسن وغيره ; كان داود - عليه السلام - بعد الخطيئة لا يجالس إلا الخاطئين ، ويقول ; تعالوا إلى داود الخطاء ، ولا يشرب شرابا إلا مزجه بدموع عينيه . وكان يجعل خبز الشعير اليابس في قصعة فلا يزال يبكي حتى يبتل بدموعه ، وكان يذر عليه الرماد والملح فيأكل ويقول ; هذا أكل الخاطئين . وكان قبل الخطيئة يقوم نصف الليل ويصوم نصف الدهر . ثم صام بعده الدهر كله وقام الليل كله . وقال ; يا رب اجعل خطيئتي في كفي ، فصارت خطيئته منقوشة في كفه . فكان لا يبسطها لطعام ولا شراب ولا شيء إلا رآها فأبكته ، وإن كان ليؤتى بالقدح ثلثاه ماء ، فإذا تناوله أبصر خطيئته فما يضعه عن شفته حتى يفيض من دموعه . وروى الوليد بن مسلم ; حدثني أبو عمرو الأوزاعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ; إنما مثل عيني داود مثل القربتين تنطفان ، ولقد خدد الدموع في وجه داود خديد الماء في الأرض .قال الوليد ; وحدثنا عثمان بن أبي العاتكة أنه كان في قول داود إذ هو خلو من الخطيئة شدة قوله في الخطائين ، إن كان يقول ; اللهم لا تغفر للخطائين . ثم صار إلى أن يقول ; اللهم رب اغفر للخاطئين لكي تغفر لداود معهم ، سبحان خالق النور . إلهي خرجت أسأل أطباء عبادك أن يداووا خطيئتي ، فكلهم عليك يدلني . إلهي أخطأت خطيئة قد خفت أن تجعل حصادها عذابك يوم القيامة إن لم تغفرها ، سبحان خالق النور . إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت الأرض برحبها علي ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي .وفي الخبر ; أن داود - عليه السلام - كان إذا علا المنبر رفع يمينه فاستقبل بها الناس ليريهم نقش خطيئته ، فكان ينادي ; إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها ، وإذا ذكرت رحمتك ارتد إلي روحي ، رب اغفر للخاطئين كي تغفرلداود معهم . وكان يقعد على سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فكانت تستنقع دموعه تحت رجليه حتى تنفذ من [ ص; 168 ] الأفرشة كلها . وكان إذا كان يوم نوحه نادى مناديه في الطرق والأسواق والأودية والشعاب وعلى رءوس الجبال وأفواه الغيران ; ألا إن هذا يوم نوح داود ، فمن أراد أن يبكي على ذنبه فليأت داود فيسعده ، فيهبط السياح من الغيران والأودية ، وترتج الأصوات حول منبره ، والوحوش والسباع والطير عكف ، وبنو إسرائيل حول منبره ، فإذا أخذ في العويل والنوح ، وأثارت الحرقات منابع دموعه ، صارت الجماعة ضجة واحدة نوحا وبكاء ، حتى يموت حول منبره بشر كثير في مثل ذلك اليوم . ومات داود - عليه السلام - فيما قيل يوم السبت فجأة ، أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه وينزل ، فقال ; جئت لأقبض روحك . فقال ; دعني حتى أنزل أو أرتقي . فقال ; ما لي إلى ذلك سبيل ، نفدت الأيام والشهور والسنون والآثار والأرزاق ، فما أنت بمؤثر بعدها أثرا . قال ; فسجد داود على مرقاة من الدرج ، فقبض نفسه على تلك الحال . وكان بينه وبين موسى عليهما السلام خمسمائة وتسع وتسعون سنة . وقيل ; تسع وسبعون ، وعاش مائة سنة ، وأوصى إلى ابنه سليمان بالخلافة .قوله تعالى ; وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب قال محمد بن كعب ومحمد بن قيس ; وإن له عندنا لزلفى قربة بعد المغفرة . وحسن مآب قالا ; والله إن أول من يشرب الكأس يوم القيامة داود . وقال مجاهد عن عبد الله بن عمر ; الزلفى الدنو من الله - عز وجل - يوم القيامة . وعن مجاهد ; يبعث داود يوم القيامة وخطيئته منقوشة في يده ; فإذا رأى أهاويل يوم القيامة لم يجد منها محرزا إلا أن يلجأ إلى رحمة الله تعالى . قال ; ثم يرى خطيئته فيقلق فيقال له ; هاهنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له ; هاهنا ، ثم يرى فيقلق فيقال له ; هاهنا ، حتى يقرب فيسكن ، فذلك قوله - عز وجل - ; وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ذكره الترمذي الحكيم . قال ; حدثنا الفضل بن محمد ، قال حدثنا عبد الملك بن الأصبغ قال ; حدثنا الوليد بن مسلم ، قال حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن عبد الملك بن أبي سليمان عن مجاهد فذكره . قال الترمذي ; ولقد كنت أمر زمانا طويلا بهذه الآيات فلا ينكشف لي المراد والمعنى من قوله ; ربنا عجل لنا قطنا والقط الصحيفة في اللغة ، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا عليهم ; فأما من أوتي كتابه بيمينه وقال لهم ; ( إنكم ستجدون هذا كله في صحائفكم تعطونها بشمائلكم ) قالوا ; ربنا عجل لنا قطنا أي ; صحيفتنا قبل يوم الحساب قال الله تعالى ; اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد فقص قصة خطيئته إلى منتهاها ، فكنت أقول ; أمره بالصبر على ما قالوا ، وأمره بذكر داود فأي شيء أريد [ ص; 169 ] من هذا الذكر ؟ وكيف اتصل هذا بذاك ؟ فلا أقف على شيء يسكن قلبي عليه ، حتى هداني الله له يوما فألهمته ; أن هؤلاء أنكروا قول أنهم يعطون كتبهم بشمائلهم ، فيها ذنوبهم وخطاياهم استهزاء بأمر الله ، وقالوا ; ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب فأوجعه ذلك من استهزائهم ، فأمره بالصبر على مقالتهم ، وأن يذكر عبده داود ، سأل تعجيل خطيئته أن يراها منقوشة في كفه ، فنزل به ما نزل من أنه كان إذا رآها اضطرب وامتلأ القدح من دموعه ، وكان إذا رآها بكى حتى تنفذ سبعة أفرشة من الليف محشوة بالرماد ، فإنما سألها بعد المغفرة وبعد ضمان تبعة الخصم ، وأن الله تبارك وتعالى اسمه يستوهبه منه ، وهو حبيبه ووليه وصفيه ، فرؤية نقش الخطيئة بصورتها مع هذه المرتبة صنعت به هكذا ، فكيف كان يحل بأعداء الله وبعصاته من خلقه وأهل خزيه ، لو عجلت لهم صحائفهم فنظروا إلى صورة تلك الخطايا التي عملوها على الكفر والجحود ، وماذا يحل بهم إذا نظروا إليها في تلك الصحائف ، وقد أخبر الله عنهم فقال ; فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها فداود صلوات الله عليه مع المغفرة والبشرى والعطف لم يقم لرؤية صورتها . وقد روينا في الحديث ; إذا رآها يوم القيامة منقوشة في كفه قلق حتى يقال له ; هاهنا ، ثم يرى فيقلق ثم يقال ; هاهنا ، ثم يرى فيقلق حتى يقرب فيسكن .
القول في تأويل قوله تعالى ; فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)يعني تعالى ذكره بقوله ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) فعفونا عنه, وصفحنا له عن أن نؤاخذه بخطيئته وذنبه ذلك ( وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى ) يقول; وإن له عندنا للقُرْبة منا يوم القيامة.وبنحو الذي قلنا في قوله ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثنا بشر, قال; ثنا يزيد, قال; ثنا سعيد, عن قتادة ( فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ ) الذنب.وقوله ( وَحُسْنُ مَآبٍ ) يقول; مَرْجع ومنقَلب ينقلب إليه يوم القيامة.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثنا بشر, قال; ثنا يزيد, قال; ثنا سعيد, عن قتادة ( وَحُسْنُ مَآبٍ ) ; أي حسن مصير.حدثنا محمد, قال; ثنا أحمد, قال; ثنا أسباط, عن السديّ, قوله; .( وَحُسْنُ مَآبٍ ) قال; حسن المنقلب.
{ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } الذي صدر منه، وأكرمه اللّه بأنواع الكرامات، فقال: { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } أي: منزلة عالية، وقربة منا، { وَحُسْنَ مَآبٍ } أي: مرجع.وهذا الذنب الذي صدر من داود عليه السلام، لم يذكره اللّه لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة