لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ
لَعَمۡرُكَ اِنَّهُمۡ لَفِىۡ سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُوۡنَ
تفسير ميسر:
يقسم الخالق بمن يشاء وبما يشاء، أما المخلوق فلا يجوز له القسم إلا بالله، وقد أقسم الله تعالى بحياة محمد صلى الله عليه وسلم تشريفًا له. إن قوم لوط في غفلة شديدة يترددون ويتمادون، حتى حلَّتْ بهم صاعقة العذاب وقت شروق الشمس.
قال الله تعالى " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " يقول وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا " إنهم لفى سكرتهم يعمهون ".رواه ابن جرير وقال قتادة في سكرتهم أي في ضلالتهم " يعمهون " أي يلعبون وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس " لعمرك " لعيشك " إنهم لفي سكرتهم يعمهون " قال يترددون.
قوله تعالى ; لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون فيه ثلاث مسائل ;الأولى ; قال القاضي أبو بكر بن العربي ; قال المفسرون بأجمعهم أقسم الله - تعالى - هاهنا بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - تشريفا له ، أن قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حيرتهم يترددون . قلت ; وهكذا قال القاضي عياض ; أجمع أهل التفسير في هذا أنه قسم من الله جل جلاله بمدة حياة محمد - صلى الله عليه وسلم - . وأصله ضم العين من العمر ولكنها فتحت لكثرة الاستعمال . ومعناه وبقائك يا محمد . وقيل وحياتك . وهذا نهاية التعظيم وغاية البر والتشريف . قال أبو الجوزاء ; ما أقسم الله بحياة أحد غير محمد - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه أكرم البرية عنده . قال ابن العربي ; " ما الذي يمنع أن يقسم الله - سبحانه وتعالى - بحياة لوط ويبلغ به من التشريف ما شاء ، وكل ما يعطيه الله - تعالى - للوط من فضل يؤتي ضعفيه من شرف لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ; لأنه أكرم على الله منه ; أولا ترى أنه سبحانه أعطى إبراهيم الخلة وموسى التكليم وأعطى ذلك لمحمد ، فإذا أقسم بحياة لوط فحياة محمد أرفع . ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكر لغير ضرورة " . قلت ; ما قاله حسن ; فإنه كان يكون قسمه سبحانه بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - كلاما معترضا في قصة لوط . قال القشيري أبو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم في تفسيره ; ويحتمل أن يقال ; يرجع ذلك إلى قوم لوط ، أي كانوا في سكرتهم يعمهون . وقيل ; لما وعظ لوط قومه وقال هؤلاء بناتي قالت الملائكة ; يا لوط ، لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ولا يدرون ما يحل بهم صباحا . فإن قيل ; فقد أقسم - تعالى - بالتين والزيتون وطور سينين ; فما في هذا ؟ قيل له ; ما من شيء أقسم الله به إلا وذلك دلالة على فضله على ما يدخل في عداده ، فكذلك نبينا - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يكون أفضل ممن هو في عداده . والعمر والعمر ( بضم العين وفتحها ) لغتان ومعناهما واحد ; إلا أنه لا يستعمل في القسم إلا بالفتح لكثرة الاستعمال . وتقول ; عمرك الله ، أي أسأل الله تعميرك . ولعمرك رفع بالابتداء وخبره محذوف . المعنى لعمرك مما أقسم به .[ ص; 37 ] الثانية ; كره كثير من العلماء أن يقول الإنسان لعمري ; لأن معناه وحياتي . قال إبراهيم النخعي ; يكره للرجل أن يقول لعمري ; لأنه حلف بحياة نفسه ، وذلك من كلام ضعفة الرجال . ونحو هذا قال مالك ; إن المستضعفين من الرجال والمؤنثين يقسمون بحياتك وعيشك ، وليس من كلام أهل الذكران ، وإن كان الله سبحانه أقسم به في هذه القصة ، فذلك بيان لشرف المنزلة والرفعة لمكانه ، فلا يحمل عليه سواه ولا يستعمل في غيره . وقال ابن حبيب ; ينبغي أن يصرف لعمرك في الكلام لهذه الآية . وقال قتادة ; هو من كلام العرب . قال ابن العربي ; وبه أقول ، لكن الشرع قد قطعه في الاستعمال ورد القسم إليه .قلت . القسم ب " لعمرك ولعمري " ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها كثير .قال النابغة ;لعمري وما عمري علي بهين لقد نطقت بطلا علي الأقارعآخر ;لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليدآخر ;أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيانآخر ;إذا رضيت علي بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاهاوقال بعض أهل المعاني ; لا يجوز هذا ; لأنه لا يقال لله عمر ، وإنما هو - تعالى - أزلي . ذكره الزهراوي .الثالثة ; قد مضى الكلام فيما يحلف به وما لا يجوز الحلف به في " المائدة " ، وذكرنا هناك قول أحمد بن حنبل فيمن أقسم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لزمته الكفارة . قال ابن خويز منداد ; من جوز الحلف بغير الله - تعالى - مما يجوز تعظيمه بحق من الحقوق فليس يقول إنها يمين تتعلق بها كفارة ; إلا أنه من قصد الكذب كان ملوما ; لأنه في الباطن مستخف بما وجب عليه تعظيمه . قالوا ; وقوله - تعالى - لعمرك أي وحياتك . وإذا أقسم الله - تعالى - بحياة نبيه فإنما أراد بيان [ ص; 38 ] التصريح لنا أنه يجوز لنا أن نحلف بحياته . وعلى مذهب مالك معنى قوله ; لعمرك والتين والزيتون . والطور وكتاب مسطور والنجم إذا هوى والشمس وضحاها لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد كل هذا معناه ; وخالق التين والزيتون ، وبرب الكتاب المسطور ، وبرب البلد الذي حللت به ، وخالق عيشك وحياتك ، وحق محمد ; فاليمين والقسم حاصل به سبحانه لا بالمخلوق . قال ابن خويز منداد ; ومن جوز اليمين بغير الله - تعالى - تأول قوله - صلى الله عليه وسلم - ; لا تحلفوا بآبائكم وقال ; إنما نهى عن الحلف بالآباء الكفار ، ألا ترى أنه قال لما حلفوا بآبائهم ; ( للجبل عند الله أكرم من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية ) . ومالك حمل الحديث على ظاهره . قال ابن خويز منداد ; واستدل أيضا من جوز ذلك بأن أيمان المسلمين جرت منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا أن يحلفوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، حتى أن أهل المدينة إلى يومنا هذا إذا حاكم أحدهم صاحبه قال ; احلف لي بحق ما حواه هذا القبر ، وبحق ساكن هذا القبر ، يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكذلك بالحرم والمشاعر العظام ، والركن والمقام والمحراب وما يتلى فيه .
وقوله ( لَعَمْرُكَ ) يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم; وحياتك يا محمد، إن قومك من قريش ( لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) يقول; لفي ضلالتهم وجهلهم يتردّدون.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثني المثنى، قال; ثنا مسلم بن إبراهيم، قال; ثنا سعيد بن زيد، قال; ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوْزاء، عن ابن عباس، قال; ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال الله تعالى ذكره ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ).حدثنا الحسن بن محمد، قال; ثنا يعقوب بن إسحاق الحضْرميّ، قال; ثنا الحسن بن أبي جعفر، قال; ثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، في قول الله ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال; ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، قال; وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ).حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) وهي كلمة من كلام العرب ، لفي سكرتهم; أي في ضلالتهم يعمهون; أي يلعبون.حدثنا ابن وكيع، قال; ثنا أبي، عن سفيان، قال; سألت الأعمش، عن قوله ( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال; لفي غفلتهم يتردّدون.حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال; ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة; ( فِي سَكْرَتِهِم ) قال; في ضلالتهم يعمهون قال; يلعبون.حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال; ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال; قال مجاهد ( يَعْمَهُونَ ) قال; يتردّدون.حدثني المثنى، قال; ثنا أبو صالح، قال; ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ( لَعَمْرُكَ ) يقول; لَعَيْشُكَ( إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) قال; يتمادَوْن.حدثني أبو السائب، قال; ثنا معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال; كانوا يكرهون أن يقول الرجل; لعمري، يرونه كقوله; وَحَيَاتِي.
تفسير الآيتين 71و 72 :ـ فـ { قَالَ } لهم لوط من شدة الأمر الذي أصابه: { هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } فلم يبالوا بقوله ولهذا قال الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } وهذه السكرة هي سكرة محبة الفاحشة التي لا يبالون معها بعذل ولا لوم.
(اللام) لام الابتداء
(عمرك) مبتدأ مرفوع، و (الكاف) مضاف إليه، والخبر محذوف وجوبا تقديره قسمي
(إنّهم) حرف توكيد ونصب.. و (هم) ضمير في محلّ نصب اسم إنّ
(اللام) المزحلقة- أو لام القسم-
(في سكرتهم) جارّ ومجرور متعلّق بخبر إنّ، و (هم) مضاف إليه
(يعمهون) مضارع مرفوع.. و (الواو) فاعل.
جملة: «لعمرك
(قسمي) ... » لا محلّ لها اعتراضيّة.
وجملة: «إنّهم لفي سكرتهم ... » لا محلّ لها جواب القسم.
وجملة: «يعمهون ... » في محلّ نصب حال من الضمير في سكرتهم .