وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
وَاِنۡ جَنَحُوۡا لِلسَّلۡمِ فَاجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى اللّٰهِؕ اِنَّهٗ هُوَ السَّمِيۡعُ الۡعَلِيۡمُ
تفسير ميسر:
وإن مالوا إلى ترك الحرب ورغبوا في مسالمتكم فمِلْ إلى ذلك -أيها النبي- وفَوِّضْ أمرك إلى الله، وثق به. إنه هو السميع لأقوالهم، العليم بنيَّاتهم.
يقول تعالى إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم "وإن جنحوا" أي مالوا "للسلم" أي المسالمة والمصالحة والمهادنة "فاجنح لها" أي فمل إليها واقبل منهم ذلك ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. وقال عبدالله بن الإمام أحمد حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثني فضيل بن سليمان يعني النميري حدثنا محمد بن أبي يحيى عن إياس بن عمرو الأسلمي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنه سيكون اختلاف أو أمر فإن استطعت أن يكون السلم فافعل" وقال لمجاهد نزلت في بني قريظة وهذا فيه نظر لأن السياق كله في وقعة بدر وذكرها مكتنف لهذا كله وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة; إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" الآية. وفيه نظر أيضا لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك فأما إن كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم. وقوله "وتوكل على الله" أي صالحهم وتوكل على الله فإن الله كافيك وناصرك.
قوله تعالى وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم [ ص; 397 ] فيه مسألتان ;الأولى ; وإن جنحوا للسلم فاجنح لها إنما قال لها لأن السلم مؤنثة . ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة . والجنوح الميل . يقول ; إن مالوا - يعني الذين نبذ إليهم عهدهم - إلى المسالمة ، أي الصلح ، فمل إليها . وجنح الرجل إلى الآخر ; مال إليه ، ومنه قيل للأضلاع جوانح ، لأنها مالت على الحشوة . وجنحت الإبل ; إذا مالت أعناقها في السير . وقال ذو الرمة ;إذا مات فوق الرحل أحييت روحه بذكراك والعيس المراسيل جنحوقال النابغة ;جوانح قد أيقن أن قبيلةإذا ما التقى الجمعان أول غالب يعني الطير . وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه على الأرض . والسلم والسلام هو الصلح . وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيصن والمفضل ( للسلم ) بكسر السين . الباقون بالفتح . وقد تقدم معنى ذلك في " البقرة " مستوفى . وقد يكون السلام من التسليم . وقرأ الجمهور فاجنح بفتح النون ، وهي لغة تميم . وقرأ الأشهب العقيلي ( فاجنح ) بضم النون ، وهي لغة قيس . قال ابن جني ; وهذه اللغة هي القياس .الثانية ; وقد اختلف في هذه الآية ، هل هي منسوخة أم لا . فقال قتادة وعكرمة ; نسخها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . وقاتلوا المشركين كافة وقالا ; نسخت " براءة " كل موادعة ، حتى يقولوا لا إله إلا الله . ابن عباس ; الناسخ لها فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . وقيل ; ليست بمنسوخة ، بل أراد قبول الجزية من أهل الجزية . وقد صالح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم ، على ما أخذوه منهم ، وتركوهم على ما هم فيه ، وهم قادرون على استئصالهم . وكذلك صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا من أهل البلاد على مال يؤدونه ، من ذلك خيبر ، رد أهلها إليها بعد الغلبة على أن يعملوا ويؤدوا النصف . قال ابن إسحاق ; قال مجاهد عنى بهذه الآية قريظة ، لأن الجزية تقبل منهم ، فأما المشركون فلا يقبل منهم شيء . وقال السدي وابن زيد . ; [ ص; 398 ] معنى الآية إن دعوك إلى الصلح فأجبهم . ولا نسخ فيها . قال ابن العربي ; وبهذا يختلف الجواب عنه ، وقد قال الله عز وجل ; فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم . فإذا كان المسلمون على عزة وقوة ومنعة ، وجماعة عديدة ، وشدة شديدة فلا صلح ، كما قال ;فلا صلح حتى تطعن الخيل بالقناوتضرب بالبيض الرقاق الجماجموإن كان للمسلمين مصلحة في الصلح ، لنفع يجتلبونه ، أو ضرر يدفعونه ، فلا بأس أن يبتدئ المسلمون به إذا احتاجوا إليه . وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها فنقض صلحهم . وقد صالح الضمري وأكيدر دومة وأهل نجران ، وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده . وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل التي شرعناها سالكة ، وبالوجوه التي شرحناها عاملة . قال القشيري ; إذا كانت القوة للمسلمين فينبغي ألا تبلغ الهدنة سنة . وإذا كانت القوة للكفار جاز مهادنتهم عشر سنين ، ولا تجوز الزيادة . وقد هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين . قال ابن المنذر ; اختلف العلماء في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة عام الحديبية ، فقال عروة ; كانت أربع سنين . وقال ابن جريج ; كانت ثلاث سنين . وقال ابن إسحاق ; كانت عشر سنين . وقال الشافعي رحمه الله ; لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين ، على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فهي منتقضة ، لأن الأصل فرض قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . وقال ابن حبيب عن مالك رضي الله عنه ; تجوز مهادنة المشركين السنة والسنتين والثلاث ، وإلى غير مدة . قال المهلب ; إنما قاضاهم النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية التي ظاهرها الوهن على المسلمين ، لسبب حبس الله ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مكة ، حين توجه إليها فبركت . وقال ; حبسها حابس الفيل . على ما خرجه البخاري من حديث المسور بن مخرمة . ودل على جواز صلح المشركين ومهادنتهم دون مال يؤخذ منهم ، إذا رأى ذلك الإمام وجها . ويجوز عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال يبذلونه للعدو ، لموادعة النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن الفزاري ، والحارث بن عوف المري يوم الأحزاب ، على أن يعطيهما ثلث ثمر المدينة ، وينصرفا بمن معهما من غطفان ويخذلا قريشا ، ويرجعا بقومهما عنهم . وكانت هذه المقالة [ ص; 399 ] مراوضة ولم تكن عقدا . فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما أنهما قد أنابا ورضيا استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ، فقالا ; يا رسول الله ، هذا أمر تحبه فنصنعه لك ، أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ، أو أمر تصنعه لنا ؟ فقال ; بل أمر أصنعه لكم فإن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، فقال له سعد بن معاذ ; يا رسول الله ، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة ، إلا شراء أو قرى ، فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ; أنتم وذاك . وقال لعيينة والحارث ; انصرفا فليس لكما عندنا إلا السيف . وتناول سعد الصحيفة ، وليس فيها شهادة أن لا إله إلا الله فمحاها .
القول في تأويل قوله ; وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)قال أبو جعفر; يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم; وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرًا, فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب =(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحربَ, إما بالدخول في الإسلام, وإما بإعطاء الجزية, وإما بموادعة, ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح (56) =(فاجنح لها)، يقول; فمل إليها, وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه.* * *يقال منه; " جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحًا ", وهي لتميم وقيس، فيما ذكر عنها, تقول; " يجنُح "، بضم النون، وآخرون; يقولون; " يَجْنِح " بكسر النون, وذلك إذا مال, ومنه قول نابغة بني ذبيان;جَــوَانِحَ قَــدْ أَيْقَــنَّ أَنَّ قَبِيلَــهُإذَا مَـا التَقَـى الجمْعـانِ أَوَّلُ غَـالِبِ (57)جوانح; موائل.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;16245- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال; حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة; (وإن جنحوا للسلم) قال; للصلح، ونسخها قوله; فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة; 5]16246- حدثنا بشر قال; حدثنا يزيد قال; حدثنا سعيد, عن قتادة, قوله; (وإن جنحوا للسلم)، إلى الصلح=(فاجنح لها)، قال; وكانت هذه قبل " براءة ", وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل, فإما أن يسلموا، وإما أن يقاتلهم, ثم نسخ ذلك بعد في " براءة " فقال; فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، وقال; وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ، [سورة التوبة; 36]، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده, وأمره بقتالهم حتى يقولوا " لا إله إلا الله " ويسلموا, وأن لا يقبلَ منهم إلا ذلك. وكلُّ عهد كان في هذه السورة وفي غيرها, وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به، فإن " براءة " جاءت بنسخ ذلك, فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا; " لا إله إلا الله ".16247- حدثنا ابن حميد قال; حدثنا يحيى بن واضح, عن الحسين, عن يزيد, عن عكرمة والحسن البصري قالا ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، نسختها الآية التي في " براءة " قوله; قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ، إلى قوله; وَهُمْ صَاغِرُونَ [سورة التوبة; 29]16248- حدثني محمد بن الحسين قال; حدثنا أحمد بن المفضل قال; حدثنا أسباط, عن السدي; (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، يقول; وإن أرادوا الصلح فأرده.16249- حدثنا ابن حميد قال; حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق,(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، أي; إن دعوك إلى السلم =إلى الإسلام= فصالحهم عليه. (58)16250- حدثني يونس قال; أخبرنا ابن وهب قال; قال ابن زيد في قوله; (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، قال; فصالحهم. قال; وهذا قد نسخه الجهاد.* * *قال أبو جعفر; فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة, فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل.وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا. (59)وقول الله في براءة; فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله.(وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، لأن قوله; (وإن جنحوا للسلم)، إنما عني به بنو قريظة, وكانوا يهودًا أهلَ كتاب, وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية منهم.وأما قوله; فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى, بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنـزلت فيه.16251- حدثني محمد بن عمرو قال; حدثنا أبو عاصم قال; حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد; (وإن جنحوا للسلم)، قال; قريظة.* * *وأما قوله; (وتوكل على الله)، يقول; فوِّض إلى الله، يا محمد، أمرك, واستكفِه، واثقًا به أنه يكفيك (60) كالذي;-16252- حدثنا ابن حميد قال; حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق; (وتوكل على الله)، إن الله كافيك. (61)* * *وقوله; (إنه هو السميع العليم)، يعني بذلك; إن الله الذي تتوكل عليه، " سميع "، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحربَ من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه, وما يشترط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط (62) =" العليم "، بما يضمره كل فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه, ومن المضمر ذلك منكم في قلبه، والمنطوي على خلافه لصاحبه. (63)------------------------الهوامش;(56) انظر تفسير " السلم " فيما سلف 4 ; 251 - 255 .(57) ديوانه ; 43 ، من شعره المشهور في عمرو بن الحارث الأعرج ، حين هرب إلى الشأم ، من النعمان بن المنذر في خبر المتجردة ، وقبله ، ذكر فيها غارة جيشه ، والنسور التي تتبع الجيش ;إذَا مَـا غَـزَوْا بِـالجَيْشِ , حَلَّقَ فَوْقَهُمْعَصَــائِبُ طَـيْرٍ تَهْتَـدِي بِعَصَـائِبِيُصَــاحبْنَهُمْ حَـتَّى يُغِـرْنَ مُغَـارَهممِـنَ الضَّارِيَـاتِ بالدِّمَـاءِ الـدَّوَارِبِتَـرَاهُنَّ خَـلْفَ القـومِ خُـزْرًا عُيُونهَاجُـلُوسَ الشُّـيُوخِ فِـي ثِيَابِ المَرَانِبِجَــوانِحَ قَــدْ أيْقَـنَّ . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . .وهذا من جيد الشعر وخالصه .(58) الأثر ; 16249 - سيرة ابن هشام 2 ; 330 ، وهو تابع الأثر السالف رقم ; 16244 ، وفي السيرة ; " إلى السلم على الإسلام " .(59) انظر مقالته في " النسخ " فيما سلف 11 ; 209 ، وما بعده وما قبله في فهارس الكتاب ، وفي فهارس العربية والنحو وغيرها .(60) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص ; 15 تعليق ; 1 ، والمراجع هناك .(61) الأثر ; 16252 - سيرة ابن هشام 2 ; 330 ، وهو تابع الأثر السالف رقم ; 16249 .(62) في المطبوعة ; " ويشرط كل فريق . . . " ، وفي المخطوطة ; " ويشترط . . . " ، والصواب بينهما ما أثبت .(63) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع ) ، ( علم ) .
تفسير الآيتين 61 و62 :ـ يقول تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا} أي: الكفار المحاربون، أي: مالوا {لِلسَّلْمِ} أي: الصلح وترك القتال. {فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي: أجبهم إلى ما طلبوا متوكلًا على ربك، فإن في ذلك فوائد كثيرة. منها: أن طلب العافية مطلوب كل وقت، فإذا كانوا هم المبتدئين في ذلك، كان أولى لإجابتهم. ومنها: أن في ذلك إجمامًا لقواكم، واستعدادا منكم لقتالهم في وقت آخر، إن احتيج لذلك. ومنها: أنكم إذا أصلحتم وأمن بعضكم بعضًا، وتمكن كل من معرفة ما عليه الآخر، فإن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه،.فكل من له عقل وبصيرة إذا كان معه إنصاف فلا بد أن يؤثره على غيره من الأديان، لحسنه في أوامره ونواهيه، وحسنه في معاملته للخلق والعدل فيهم، وأنه لا جور فيه ولا ظلم بوجه، فحينئذ يكثر الراغبون فيه والمتبعون له. فصار هذا السلم عونا للمسلمين على الكافرين. ولا يخاف من السلم إلا خصلة واحدة، وهي أن يكون الكفار قصدهم بذلك خدع المسلمين، وانتهاز الفرصة فيهم،.فأخبرهم اللّه أنه حسبهم وكافيهم خداعهم، وأن ذلك يعود عليهم ضرره، فقال: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} أي: كافيك ما يؤذيك، وهو القائم بمصالحك ومهماتك، فقد سبق [لك] من كفايته لك ونصره ما يطمئن به قلبك. فل ـ {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} أي: أعانك بمعونة سماوية، وهو النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين بأن قيضهم لنصرك.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة