وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُۥ ۚ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
وَ جَآءَ الۡمُعَذِّرُوۡنَ مِنَ الۡاَعۡرَابِ لِيُؤۡذَنَ لَهُمۡ وَقَعَدَ الَّذِيۡنَ كَذَبُوا اللّٰهَ وَرَسُوۡلَهٗ ؕ سَيُصِيۡبُ الَّذِيۡنَ كَفَرُوۡا مِنۡهُمۡ عَذَابٌ اَلِيۡمٌ
تفسير ميسر:
وجاء جماعة من أحياء العرب حول (المدينة) يعتذرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج للغزو، وقعد قوم بغير عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. سيصيب الذين كفروا من هؤلاء عذاب أليم في الدنيا بالقتل وغيره، وفي الآخرة بالنار.
ثم بين تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ويبينون له ما هم فيه من الضعف وعدم القدرة على الخروج وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة. قال الضحاك عن ابن عباس إنه كان يقرأ " وجاء المعذرون " بالتخفيف ويقول هم أهل العذر وكذا روى ابن عيينة عن حميد عن مجاهد سواء قال ابن إسحاق وبلغني أنهم نفر من بني غفار خفاف بن إيماء بن رخصة وهذا القول هو الأظهر في معنى الآية لأنه قال بعد هذا " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " أي " لم يأتوا فيعتذروا وقال ابن جريج عن مجاهد " وجاء المعذرون من الأعراب " قال نفر من بني غفار جاءوا فاعتذروا فلم يعذرهم الله وكذا قال الحسن وقتادة ومحمد بن إسحاق والقول الأول أظهر والله أعلم لما قدمنا من قوله بعده " وقعد الذين كذبوا الله ورسوله " أي وقعد آخرون من الأعراب عن المجيء للاعتذار ثم أوعدهم بالعذاب الأليم فقال " سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ".
قوله تعالى وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليمقوله تعالى وجاء المعذرون من الأعراب قرأ الأعرج والضحاك " المعذرون " [ ص; 148 ] مخففا . ورواها أبو كريب عن أبي بكر عن عاصم ، ورواها أصحاب القراءات عن ابن عباس . قال الجوهري ; وكان ابن عباس يقرأ " وجاء المعذرون " مخففة ، من أعذر . ويقول ; والله لهكذا أنزلت . قال النحاس ; إلا أن مدارها عن الكلبي ، وهي من أعذر ; ومنه قد أعذر من أنذر ; أي قد بالغ في العذر من تقدم إليك فأنذرك . وأما ( المعذرون ) بالتشديد ففيه قولان ; أحدهما أنه يكون المحق ; فهو في المعنى المعتذر ؛ لأن له عذرا . فيكون ( المعذرون ) على هذه أصله المعتذرون ، ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت فيها وجعلت حركتها على العين ; كما قرئ ( يخصمون ) بفتح الخاء . ويجوز " المعذرون " بكسر العين لاجتماع الساكنين . ويجوز ضمها اتباعا للميم . ذكره الجوهري والنحاس . إلا أن النحاس حكاه عن الأخفش والفراء وأبي حاتم وأبي عبيد . ويجوز أن يكون الأصل المعتذرون ، ثم أدغمت التاء في الذال ; ويكونون الذين لهم عذر . قال لبيد ;إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذروالقول الآخر ; أن المعذر قد يكون غير محق ، وهو الذي يعتذر ولا عذر له . قال الجوهري ; فهو المعذر على جهة المفعل ; لأنه الممرض والمقصر يعتذر بغير عذر . قال غيره ; يقال عذر فلان في أمر كذا تعذيرا ; أي قصر ولم يبالغ فيه . والمعنى أنهم اعتذروا بالكذب . قال الجوهري ; وكان ابن عباس يقول ; لعن الله المعذرين . كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد هو المظهر للعذر ، اعتلالا من غير حقيقة له في العذر . النحاس ; قال أبو العباس محمد بن يزيد ولا يجوز أن يكون الأصل فيه المعتذرين ، ولا يجوز الإدغام فيقع اللبس . ذكر إسماعيل بن إسحاق أن الإدغام مجتنب على قول الخليل وسيبويه ، بعد أن كان سياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم ، قال ; لأنهم جاءوا ليؤذن لهم ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا . قال النحاس ; وأصل المعذرة والإعذار والتعذير من شيء واحد وهو مما يصعب ويتعذر . وقول العرب ; من عذيري من فلان ، معناه قد أتى أمرا عظيما يستحق أن أعاقبه عليه ولم يعلم الناس به ; فمن يعذرني إن عاقبته . فعلى قراءة التخفيف قال ابن عباس ; هم الذين تخلفوا بعذر فأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل ; هم رهط عامر بن الطفيل قالوا ; يا رسول الله ، لو غزونا معك أغارت أعراب طيء على حلائلنا وأولادنا ومواشينا ; فعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم . وعلى قراءة التشديد في القول الثاني ، هم قوم من غفار اعتذروا فلم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم ; لعلمه أنهم غير محقين ، والله أعلم . وقعد قوم بغير [ ص; 149 ] عذر أظهروه جرأة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم الذين أخبر الله تعالى عنهم فقال ; وقعد الذين كذبوا الله ورسوله والمراد بكذبهم قولهم ; ( إنا مؤمنون ) . و ( ليؤذن ) نصب بلام كي .
القول في تأويل قوله ; وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)قال أبو جعفر; يقول تعالى ذكره; (وجاء)، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم =(المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم)، في التخلف =(وقعد)، عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه (13) =(الذين كذبوا الله ورسوله)، وقالوا الكذب, واعتذرُوا بالباطل منهم. يقول تعالى ذكره; سيُصيب الذين جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منهم، عذابٌ أليم. (14)* * *فإن قال قائل; (وجاء المعذّرون)، وقد علمت أن " المعذِّر "، في كلام العرب، إنما هو; الذي يُعَذِّر في الأمر فلا يبالغ فيه ولا يُحكمه؟ وليست هذه صفة هؤلاء, وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّهم, وحرصوا على ذلك, فلم يجدوا إليه السبيل, فهم بأن يوصفوا بأنهم; " قد أعذروا "، أولى وأحق منهم بأن يوصفوا بأنهم " عذَّروا ". وإذا وصفوا بذلك، (15) فالصَّواب في ذلك من القراءة، ما قرأه ابن عباس, وذلك ما;-17073- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا بشر بن عمارة, عن أبي روق، عن الضحاك قال; كان ابن عباس يقرأ; ( وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ )، مخففةً, ويقول; هم أهل العذر.= مع موافقة مجاهد إياه وغيره عليه؟قيل; إن معنى ذلك على غير ما ذهبتَ إليه, وإن معناه; وجاء المعتذِرون من الأعراب = ولكن " التاء " لما جاورت " الذال " أدغمت فيها, فصُيِّرتا ذالا مشدَّدة، لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى, كما قيل; " يذَّكَّرون " في " يتذكرون ", و " يذكّر " في " يتذكر " وخرجت العين من " المعذّرين " إلى الفتح, لأن حركة التاء من " المعتذرين "، وهي الفتحة، نقلت إليها، فحركت بما كانت به محركة. والعرب قد توجِّه في معنى " الاعتذار "، إلى " الإعذار ", فيقول; " قد اعتذر فلان في كذا ", يعني; أعذر, (16) ومن ذلك قول لبيد;إِلَـى الحَـوْلِ ثُـمَّ اسْـمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَاومَـنْ يَبْـكِ حَـوْلا كَـامِلا فَقَدِ اعتَذَرْ (17)فقال; فقد اعتذر, بمعنى; فقد أعْذَر.* * *على أن أهل التأويل قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم الله بأنهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم " معذِّرين ".فقال بعضهم; كانوا كاذبين في اعتذارهم, فلم يعذرهم الله.* ذكر من قال ذلك;17074- حدثني أبو عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي, عن الحسين قال; كان قتادة يقرأ; (وجاء المعذرون من الأعراب)، قال; اعتذروا بالكذب.17075- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا, عن ابن جريج, عن مجاهد; (وجاء المعذرون من الأعراب)، قال; نفر من بني غفار، جاءوا فاعتذروا, فلم يعذرهم الله.* * *= فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء; أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار بالباطل لا بالحق، فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار، إلا أن يوصفوا بأنهم أعْذَرُوا في الاعتذار بالباطل. فأمّا بالحق = على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء = فغير جائز أن يوصَفوا به.* * *وقد كان بعضهم يقول; إنما جاءوا معذّرين غير جادِّين, يعرضون ما لا يريدون فعله. فمن وجَّهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك, غير أني لا أعلم أحدًا من أهل العلم بتأويل القرآن وجَّه تأويله إلى ذلك, فأستحبُّ القول به. (18)وبعدُ, فإن الذي عليه من القراءة قرأة الأمصار، التشديد في " الذال ", أعني من قوله; (المُعَذّرُونَ)، ففي ذلك دليلٌ على صحة تأويل من تأوله بمعنى الاعتذار، لأن القوم الذين وُصفوا بذلك لم يكلفوا أمرًا عَذَّرُوا فيه, وانما كانوا فرقتين; إما مجتهد طائع، وإما منافق فاسقٌ، لأمر الله مخالف. فليس في الفريقين موصوفٌ بالتعذير في الشخوص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما هو معذّر مبالغٌ, أو معتَذِر.فإذا كان ذلك كذلك, وكانت الحجة من القرأة مجمعة على تشديد " الذال " من " المعذرين ", عُلم أن معناه ما وصفناه من التأويل.* * *وقد ذكر عن مجاهد في ذلك موافقة ابن عباس.17076- حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير, عن ابن عيينة, عن حميد قال; قرأ مجاهد; (وَجاءَ المُعذَرُونَ)، مخففةً, وقال; هم أهل العذر.17077- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق قال; كان المعذرون، [فيما بلغني، نفرًا من بني غِفارٍ، منهم; خفاف بن أيماء بن رَحَضة، ثم كانت القصة لأهل العذر، حتى انتهى إلى قوله; وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ، [الآية]. (19)-----------------------(13) انظر تفسير " القعود " فيما سلف ص ; 412 ، تعليق ; 1 ، والمراجع هناك .(14) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( ألم ) .(15) في المطبوعة ; " بأنهم عذروا ، إذا وصفوا بذلك " ، كأنه متعلق بالسالف .والصواب أنه ابتداء كلام ، والواو في " وإذا " ثابتة في المخطوطة .(16) انظر معاني القرآن للفراء 1 ; 447 ، 448 .(17) سلف البيت وتخريجه 1 ; 119 ، تعليق ; 1 .(18) في المطبوعة ; " فاستحبوا " جمعًا ، وإنما جاء الخطأ من سوء كتابة المخطوطة ، لأنه أراد أن يكتب بعد آخر الباء واوًا ، ثم عدل عن ذلك ، فأخذ الناشر بما عدل عنه الناسخ ! ! .(19) الأثر ; 17077 - سيرة ابن هشام 4 ; 197 ، وهو تابع الأثر السالف رقم ; 17063 . وكان هذا الخبر في المخطوطة والمطبوعة مبتورًا ، أتممته من سيرة ابن هشام ، ووضعت تمامه بين القوسين .
يقول تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} أي: جاء الذين تهاونوا، وقصروا منهم في الخروج لأجل أن يؤذن لهم في ترك الجهاد، غير مبالين في الاعتذار لجفائهم وعدم حيائهم، وإتيانهم بسبب ما معهم من الإيمان الضعيف. وأما الذين كذبوا اللّه ورسوله منهم، فقعدوا وتركوا الاعتذار بالكلية، ويحتمل أن معنى قوله: {الْمُعَذِّرُونَ} أي: الذين لهم عذر، أتوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعذرهم، ومن عادته أن يعذر من له عذر. {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في دعواهم الإيمان، المقتضي للخروج، وعدم عملهم بذلك، ثم توعدهم بقوله: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا والآخرة.
(الواو) استئنافيّة
(جاء) فعل ماض
(المعذّرون) فاعل مرفوع وعلامة الرفع الواو (من الأعراب) جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف حال من(المعذّرون) ،
(اللام) لام التعليلـ (يؤذن) مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وهو مبنيّ للمجهولـ (اللام) حرف جرّ و (هم) ضمير في محلّ جرّ وهو نائب فاعل في محل رفع.
والمصدر المؤوّلـ (أن يؤذن..) في محلّ جرّ باللام متعلّق بـ (جاء) .
(الواو) عاطفة
(قعد) مثل جاء
(الذين) اسم موصول مبنيّ في محلّ رفع فاعلـ (كذبوا) مثل رضوا ،
(اللَّه) لفظ الجلالة مفعول به منصوبـ (الواو) عاطفة
(رسول) معطوفة على لفظ الجلالة منصوب و (الهاء) مضاف إليه ،
(السين) حرف استقبالـ (يصيب) مضارع مرفوع
(الذين) موصول مفعول به
(كفروا) مثل رضوا
(منهم) مثل لهم متعلّق بمحذوف حال من فاعل كفروا
(عذاب) فاعل مرفوع
(أليم) نعت لعذاب مرفوع.
جملة: «جاء المعذّرون ... » لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «يؤذن لهم» لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ
(أن) المضمر.
وجملة: «قعد الذين ... » لا محلّ لها معطوفة على الاستئنافيّة.
وجملة: «كذبوا ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذين) .
وجملة: «سيصيب.. عذاب» لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «كفروا ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذين) الثاني.