بِالْبَيِّنٰتِ وَالزُّبُرِ ۗ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ
بِالۡبَيِّنٰتِ وَالزُّبُرِؕ وَاَنۡزَلۡنَاۤ اِلَيۡكَ الذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ اِلَيۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُوۡنَ
تفسير ميسر:
وأَرْسَلْنا الرسل السابقين بالدلائل الواضحة وبالكتب السماوية، وأنزلنا إليك -أيها الرسول- القرآن؛ لتوضح للناس ما خفي مِن معانيه وأحكامه، ولكي يتدبروه ويهتدوا به.
ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم "بالبينات" أي بالحجج والدلائل "والزبر" وهي الكتب قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم والزبر جمع زبور تقول العرب زبرت الكتاب إذا كتبته. وقال تعالى "وكل شيء فعلوه في الزبر" وقال "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" ثم قال تعالى "وأنزلنا إليك الذكر" يعني القرآن "لتبين للناس ما نزل إليهم" أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك وحرصك عليه واتباعك له ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل "ولعلهم يتفكرون" أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين.
بالبينات والزبر قيل ; بالبينات ، متعلق بأرسلنا " . وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا - أي غير رجال ، فإلا بمعنى غير ; كقوله ; لا إله إلا الله ، وهذا قول الكلبي - نوحي إليهم . وقيل ; في الكلام حذف دل عليه أرسلنا أي أرسلناهم بالبينات والزبر . ولا يتعلق بالبينات بأرسلنا الأول على هذا القول ; لأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها ، وإنما يتعلق بأرسلنا المقدرة ، أي أرسلناهم بالبينات . وقيل ; مفعول ب تعلمون والباء زائدة ، أو نصب بإضمار أعني ; كما قال الأعشى ;وليس مجيرا إن أتى الحي خائف ولا قائلا إلا هو المتعيباأي أعني المتعيب . والبينات ; الحجج والبراهين . والزبر ; الكتب . وقد تقدم في آل عمرانوأنزلنا إليك الذكر يعني القرآن .لتبين للناس ما نزل إليهم في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك ; فالرسول - صلى الله عليه وسلم - مبين عن الله - عز وجل - مراده مما أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة ، وغير ذلك مما لم يفصله .ولعلهم يتفكرون فيتعظون .
يقول تعالى ذكره; أرسلنا بالبينات والزُّبُر رجالا نوحي إليهم.فإن قال قائل; وكيف قيل بالبينات والزُّبُر ، وما الجالب لهذه الباء في قوله ( بِالْبَيِّنَاتِ ) فإن قلت; جالبها قوله ( أرْسَلْنَا ) وهي من صلته، فهل يجوز أن تكون صلة " ما " قبل " إلا " بعدها؟ وإن قلت; جالبها غير ذلك، فما هو؟ وأين الفعل الذي جلبها ، قيل; قد اختلف أهل العربية في ذلك، فقال بعضهم; الباء التي في قوله (بالبَيِّنَاتِ ) من صلة أرسلنا، وقال; إلا في هذا الموضع، ومع الجحد والاستفهام في كلّ موضع بمعنى غير ، وقال; معنى الكلام; وما أرسلنا من قبلكم بالبينات والزبر غير رجال نوحي إليهم، ويقول على ذلك; ما ضرب إلا أخوك زيدا، وهل كلم إلا أخوك عمرا، بمعنى; ما ضرب زيدا غير أخيك، وهل كلم عمرا إلا أخوك؟ ويحتجّ في ذلك بقول أوْس بن حَجَر;أبَنِـــي لُبَيْنَـــي لَسْــتُمَ بِيَــدٍإلا يَـــدٍ لَيْسَــتْ لَهَــا عَضُــدُ (1)ويقول; لو كانت " إلا " بغير معنى لفسد الكلام، لأن الذي خفض الباء قبل إلا لا يقدر على إعادته بعد إلا لخفض اليد الثانية، ولكن معنى إلا معنى غير ، ويستشهد أيضا بقول الله عزّ وجلّ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ ويقول; إلا بمعنى غير في هذا الموضع ، وكان غيره يقول; إنما هذا على كلامين، يريد; وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا أرسلنا بالبينات والزبر ، قال; وكذلك قول القائل; ما ضرب إلا أخوك زيدا معناه; ما ضرب إلا أخوك ، ثم يبتدئ ضرب زيدا، وكذلك ما مَرَّ إلا أخوك بزيد ما مرّ إلا أخوك، ثم يقول; مرّ بزيد ، ويستشهد على ذلك ببيت الأعشى;ولَيْسَ مُجِـيرًا إنْ أتَـى الحَـيَّ خائِفٌوَلا قـــائِلا إلا هُـــوَ المُتَعَيَّبــا (2)ويقول; لو كان ذلك على كلمة لكان خطأ، لأن المُتَعَيَّبا من صلة القائل، ولكن جاز ذلك على كلامين وكذلك قول الآخر;نُبِّئْــتُهُمْ عَذَّبُــوا بالنَّــارِ جـارَهُمُوَهَــلْ يُعَــذِّبُ إلا اللَّــهُ بالنَّـارِ (3)فتأويل الكلام إذن; وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ أرسلناهم بالبينات والزبر، وأنـزلنا إليك الذكر. والبينات; هي الأدلة والحجج التي أعطاها الله رسله أدلة على نبوّتهم شاهدة لهم على حقيقة ما أتوا به إليهم من عند الله. والزُّبُر; هي الكتب، وهي جمع زَبُور، من زَبَرْت الكتاب وذَبَرته; إذا كتبته.وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال; ثني عمي، قال; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس ( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) قال; الزبر; الكتب.حدثنا محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ) قال; الآيات. والزبر; الكتب.حدثني المثنى، قال; ثنا أبو حُذيفة، قال; ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال; الزُّبُر; الكتب.حُدثت عن الحسين، قال; سمعت أبا معاذ يقول; ثنا عبيد بن سليمان، قال; سمعت الضحاك يقول في قوله (بالزُّبُر) يعني; بالكتب.وقوله ( وَأَنـزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ) يقول; وأنـزلنا إليك يا محمد هذا القرآن تذكيرا للناس وعظة لهم ، ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) يقول; لتعرفهم ما أنـزل إليهم من ذلك ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) يقول; وليتذكروا فيه ويعتبروا به أي بما أنـزلنا إليك ، وقد حدثني المثنى، قال; ثنا إسحاق، قال; ثنا عبد الرزاق، قال; ثنا الثوري، قال; قال مجاهد ( وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) قال; يطيعون.----------------------الهوامش ;(1) رواية هذا البيت في الكتاب لسيبويه ( 1; 362 );يــا بُنَــيْ لُبَيْنَــى لَسْــتُمَا بِيَـدٍإلاَّ يَـــداً لَيسَــتْ لَهَــا عَضُــدُبنصب يد التي بعد إلا على محل بيد التي قبلها. قال الشنتمري في الكلام على الشاهد; الشاهد فيه نصب ما بعد إلا، على البدل من موضع الباء وما عملت فيه. والتقدير; لستما يدا إلا يدا لا عضد لها. ولا يجوز الجر على البدل من المجرور، لأن ما بعد "إلا" مجرور، والباء; مؤكدة للنفي. ويروي; مخبولةالعضد. والخبل; الفساد، أي أنتما في الضعف وقلة النفع كيد بطل عضدها. أ ه.وقال الفراء في معاني القرآن ( 1; 172); ورأيت الكسائي يجعل إلا مع الجحد والاستفهام بمنزلة غير ... وقال في قوله تعالى; ( لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا) لا أجد المعنى إلا; لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا. واحتج بقول الشاعر;أبنـــي لبينـــي لســتم بيــدإلا يـــد ليســت لهــا عضــدفقال; لو كان المعنى إلا لكان الكلام فاسدا في هذا المعنى؛ لأني لا أقدر في هذا البيت على إعادة خافض بضمير، وقد ذهب ههنا مذهبا. قلت; وقد جوز الشيخ خالد في يد التي بعد إلا النصب على الاستثناء، وعلى البدلية، كما مر في كلام الأعلم الشنتمري. وجوز وجهاً ثالثاً تبعا للكسائي وأنشد بيته الشاهد، وهذا الوجه; هو جره على الصفة ليد الأولى. التصريح بمضمون التوضيح 1; 424 ( طبعة الأميرية، باب الاستثناء) .وقال الشيخ يس العليمي الحمصي في حاشيته على التصريح في هذا الموضع; "أبني لبيني" بصيغة المثنى، بدليل قوله "لستما" أي في رواية صاحب التصريح. وهو منادي حذف منه حرف النداء، وليس في قوله; "إلا يد" وصف الشيء بنفسه، لأن المعتمد بالصفة ليد الأولى صفة يد الثانية و "يد" الثانية صفة موطئة.(2) البيت للأعشى بني ثعلبة ميمون بن قيس ( ديوانه طبعة القاهرة ص 113 ) يقول; إنه لا يملك أن يؤمن رجلا، فيجعله في جواره، لأن الناس لا يحترمون هذا الجوار، وإنما يحترمون جوار الأقوياء، فلا يجرءون أن ينالوا جارهم بأذى، والمتعيب اسم مفعول من تعيبه إذا نسبه إلى العيب; أي ولا قائلا القول المعيب إلا هو. وقد بين المؤلف وجه استشهاد بعض النحويين (وهو الكسائي) بالبيت. وأن المتعيبا منصوب بقائلا المحذوف. والتقدير; ولا قائلا إلا هو "قائلا" المعيبا. وهو معنى قوله، ولكن جاز ذلك على كلامين. أ ه.(3) هذا البيت كسابقه; شاهد على أن قوله "بالنار" من صلة الفعل "يعذب" وما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها، فأخره ونوى كلامين، فيكون "بالنار" من صلة "يعذب" المحذوف. والتقدير; وهل يعذب إلا الله، يعذب بالنار. والبيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( 172 ).
تفسير الآيتين 43 و44 :ـ يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا ْ} أي: لست ببدع من الرسل، فلم نرسل قبلك ملائكة بل رجالا كاملين لا نساء. { نُوحِي إِلَيْهِمْ ْ} من الشرائع والأحكام ما هو من فضله وإحسانه على العبيد من غير أن يأتوا بشيء من قبل أنفسهم، { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ْ} أي: الكتب السابقة { إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ْ} نبأ الأولين، وشككتم هل بعث الله رجالا؟ فاسألوا أهل العلم بذلك الذين نزلت عليهم الزبر والبينات فعلموها وفهموها، فإنهم كلهم قد تقرر عندهم أن الله ما بعث إلا رجالا يوحي إليهم من أهل القرى، وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل. فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم حيث أمر بسؤالهم، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة، فدل على أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم، والاتصاف بصفات الكمال. وأفضل أهل الذكر أهل هذا القرآن العظيم، فإنهم أهل الذكر على الحقيقة، وأولى من غيرهم بهذا الاسم، ولهذا قال تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ْ} أي: القرآن الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من أمور دينهم ودنياهم الظاهرة والباطنة، { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ْ} وهذا شامل لتبيين ألفاظه وتبيين معانيه، { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ْ} فيه فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم عليه.
(بالبيّنات) جارّ ومجرور متعلّق بـ (نوحي) ،
(الواو) عاطفة
(الزّبر) معطوف على البيّنات مجرور
(الواو) عاطفة
(أنزلنا الذّكر) مثل أرسلنا رجالا
(إليك) مثل إليهم متعلّق بـ (أنزلنا) ،
(اللام) للتعليلـ (تبيّن) مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام، والفاعل أنت
(للناس) جارّ ومجرور متعلّق بـ (تبيّن) ،
(ما) اسم موصول مبنيّ في محلّ نصب مفعول به
(نزّل) فعل ماض مبنيّ للمجهول، ونائب الفاعل ضمير مستتر تقديره هو وهو العائد
(إليهم) مثل الأول متعلّق بـ (نزّل) والمصدر المؤوّلـ (أن تبيّن ... ) في محلّ جرّ باللام متعلّق بـ (أنزلنا) . (الواو) عاطفة
(لعلّهم) حرف مشبه بالفعل للترجّي.. و (هم) ضمير في محلّ نصب اسم لعلّ
(يتفكّرون) مثل تعلمون. وجملة: «أنزلنا إليك ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة أرسلنا. وجملة: «تبيّن ... » لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ
(أن) المضمر. وجملة: «نزّل ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (ما) . وجملة: «لعلّهم يتفكّرون» لا محلّ لها معطوفة على مقدّر أي فيسمعون ذلك ولعلّهم يتفكّرون.