فَخَرَجَ عَلٰى قَوْمِهِۦ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحٰىٓ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا
فَخَرَجَ عَلٰى قَوۡمِهٖ مِنَ الۡمِحۡرَابِ فَاَوۡحٰٓى اِلَيۡهِمۡ اَنۡ سَبِّحُوۡا بُكۡرَةً وَّعَشِيًّا
تفسير ميسر:
فخرج زكريا على قومه مِن مصلاه، وهو المكان الذي بُشِّر فيه بالولد، فأشار إليهم; أن سَبِّحوا الله صباحًا ومساءً شكرًا له تعالى.
ولهذا قال في هذه الآية الكريمة "فخرج على قومه من المحراب" أي الذي بشر فيه بالولد "فأوحى إليهم" أي أشار إشارة خفية سريعة "أن سبحوا بكرة وعشيا" أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله شكرا لله على ما أولاه. قال مجاهد "فأوحى إليهم" أي أشار وبه قال وهب وقتادة وقال مجاهد في رواية عنه "فأوحى إليهم" أي كتب لهم في الأرض وكذا قال السدي.
قوله تعالى ; فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا فيه خمس مسائل ;الأولى ; قوله تعالى ; فخرج على قومه من المحراب أي أشرف عليهم من المصلى . والمحراب أرفع المواضع ، وأشرف المجالس ، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ؛ دليله محراب داود - عليه السلام - على ما يأتي . واختلف الناس في اشتقاقه ؛ فقالت فرقة ; هو مأخوذ من الحرب كأن ملازمه يحارب الشيطان والشهوات . وقالت فرقة ; هو مأخوذ من الحرب ( بفتح الراء ) كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا .الثانية ; هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم في صلاتهم . وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار ، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره متمسكا بقصة المنبر . ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام .[ ص; 14 ] قلت ; وهذا فيه نظر ؛ وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال ; ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا - أو - ينهى عن ذلك ! قال ; بلى ؛ قد ذكرت حين مددتني . وروي أيضا عن عدي بن ثابت الأنصاري قال ; حدثني رجل أنه كان مع عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقيمت الصلاة فتقدم عمار بن ياسر ، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه ، فتقدم حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته ، قال له حذيفة ; ألم تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ; إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم أو نحو ذلك ؛ فقال عمار ; لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي .قلت ; فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك ، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر فدل على أنه منسوخ ، ومما يدل على نسخه أن فيه عملا زائدا في الصلاة ، وهو النزول والصعود ، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام . وهذا أولى مما اعتذر به أصحابنا من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان معصوما من الكبر ؛ لأن كثيرا من الأئمة يوجد لا كبر عندهم ، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا ؛ والله أعلم .[ الثالثة ] قوله تعالى ; فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا قال الكلبي وقتادة وابن منبه ; أوحى إليهم أشار . القتبي ; أومأ . مجاهد ; كتب على الأرض . عكرمة ; كتب في كتاب . والوحي في كلام العرب الكتابة ؛ ومنه قول ذي الرمة ;سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها بقية وحي في بطون الصحائفوقال عنترة ;كوحي صحائف من عهد كسرى فأهداها لأعجم طمطميو بكرة وعشيا ظرفان . وزعم الفراء أن العشي يؤنث ويجوز تذكيره إذا أبهمت ؛ قال ; وقد يكون العشي جمع عشية .الرابعة ; قد تقدم الحكم في الإشارة في ( آل عمران ) واختلف علماؤنا فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه كتابا ، أو أرسل إليه رسولا ؛ فقال مالك ; إنه يحنث إلا أن ينوي [ ص; 15 ] مشافهته ، ثم رجع فقال ; لا ينوي في الكتاب ويحنث إلا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله . قال ابن القاسم ; إذا قرأ كتابه حنث ، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه . وقال أشهب ; لا يحنث إذا قرأه الحالف ؛ وهذا بين ؛ لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه بكلام إلا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه ، فإنه يحنث وعليه يخرج قول ابن القاسم . فإن حلف ليكلمنه لم يبر إلا بمشافهته ؛ وقال ابن الماجشون ; وإن حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه إليه أو أرسل إليه رسولا بر ، ولو علماه جميعا لم يبر ، حتى يعلمه لأن علمهما مختلف .الخامسة ; واتفق مالك والشافعي والكوفيون أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده لزمه ؛ قال الكوفيون ; إلا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز من ذلك شيء . قال الطحاوي ; الخرس مخالف للصمت العارض ، كما أن العجز عن الجماع العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز الميئوس منه الجماع ، نحو الجنون في باب خيار المرأة في الفرقة .
يقول تعالى ذكره; فخرج زكريا على قومه من مصلاه حين حُبس لسانه عن كلام الناس، آية من الله له على حقيقة وعده إياه ما وعد. فكان ابن جريج يقول في معنى خروجه من محرابه، ما حدثنا القاسم، قال; ثنا الحسين، قال; ثني حجاج ، عن ابن جريج ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) قال; أشرف على قومه من المحراب.قال أبو جعفر; وقد بيَّنا معنى المحراب فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.حدثني يونس، قال; أخبرنا ابن وهب، قال; قال ابن زيد، في قوله ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) قال; المحراب; مصلاه، وقرأ; فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِوقوله; ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) يقول; أشار إليهم، وقد تكون تلك الإشارة باليد وبالكتاب وبغير ذلك، مما يفهم به عنه ما يريد. وللعرب في ذلك لغتان; وَحَى، وأوحى فمن قال; وَحَى، قال في يفعل; يَحِي; ومن قال; أوحى، قال ; يُوحي، وكذلك أوَمَى وَوَمَى، فمن قال; وَمَى، قال في يفعل يَمِي; ومن قال أوَمَى، قال يُومِي.واختلف أهل التأويل في المعنى الذي به أوحى إلى قومه، فقال بعضهم; أوحى إليهم إشارة باليد.* ذكر من قال ذلك;حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (فَأَوْحَى) ; فأشار زكريا.حدثنا القاسم، قال; ثنا الحسين، قال; ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.حدثنا ابن حميد، قال; ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) قال; الوحي; الإشارة.حدثنا الحسن، قال; أخبرنا عبد الرزاق، قال; أخبرنا معمر، عن قتادة ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) قال; أومى إليهم.وقال آخرون; معنى أوحى; كتب.* ذكر من قال ذلك;حدثنا محمود بن خداش، قال; ثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد، في قول الله تعالى ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال; كتب لهم في الأرض.حدثنا الحسن، قال; أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ ) قال; كتب لهم.حدثنا موسى، قال; ثنا عمرو، قال; ثنا أسباط، عن السدّي ( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ ) فكتب لهم في كتاب ( أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) ، وذلك قوله ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ )وقال آخرون; معنى ذلك; أمرهم.* ذكر من قال ذلك;حدثني يونس، قال; أخبرنا ابن وهب، قال; قال ابن زيد، في قوله ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال; ما أدري كتابا كتبه لهم، أو إشارة أشارها، والله أعلم، قال; أمرهم أن سَبِّحوا بكرة وعشيا، وهو لا يكلمهم.وقوله ( أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قد بيَّنت فيما مضى الوجوه التي ينصرف فيها التسبيح، وقد يجوز في هذا الموضع أن يكون عنى به التسبيح الذي هو ذكر الله، فيكون أمرهم بالفراغ لذكر الله في طرفي النهار بالتسبيح، ويجوز أن يكون عنى به الصلاة، فيكون أمرهم بالصلاة في هذين الوقتين.وكان قتادة يقول في قوله ( فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) قال; أومى إليهم أن صلوا بكرة وعشيا.
وخرج على قومه منه فأوحى إليهم، أي: بالإشارة والرمز { أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ْ} لأن البشارة بـ \" يحيى \" في حق الجميع، مصلحة دينية.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة