الرسم العثمانيوَلَا تُجٰدِلُوٓا أَهْلَ الْكِتٰبِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوٓا ءَامَنَّا بِالَّذِىٓ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلٰهُنَا وَإِلٰهُكُمْ وٰحِدٌ وَنَحْنُ لَهُۥ مُسْلِمُونَ
الـرسـم الإمـلائـيوَلَا تُجَادِلُوۡٓا اَهۡلَ الۡكِتٰبِ اِلَّا بِالَّتِىۡ هِىَ اَحۡسَنُ ۖ اِلَّا الَّذِيۡنَ ظَلَمُوۡا مِنۡهُمۡ وَقُوۡلُوۡٓا اٰمَنَّا بِالَّذِىۡۤ اُنۡزِلَ اِلَيۡنَا وَاُنۡزِلَ اِلَيۡكُمۡ وَاِلٰهُـنَا وَاِلٰهُكُمۡ وَاحِدٌ وَّنَحۡنُ لَهٗ مُسۡلِمُوۡنَ
تفسير ميسر:
ولا تجادلوا -أيها المؤمنون- اليهودَ والنصارى إلا بالأسلوب الحسن، والقول الجميل، والدعوة إلى الحق بأيسر طريق موصل لذلك، إلا الذين حادوا عن وجه الحق وعاندوا وكابروا وأعلنوا الحرب عليكم فجالدوهم بالسيف حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، وقولوا; آمنا بالقرآن الذي أُنزل إلينا، وآمنا بالتوراة والإنجيل اللذَيْن أُنزلا إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد لا شريك له في ألوهيته، ولا في ربوبيته، ولا في أسمائه وصفاته، ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا به، ونهانا عنه.
قال قتادة وغير واحد; هذه الآية منسوخة بآية السيف ولم يبق معهم مجادلة وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف وقال آخرون بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين فيجادل بالتي هي أحسن ليكون أنجع فيه كما قال تعالى "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" الآية وقال تعالى لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون "فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى" وهذا القول اختاره ابن جرير وحكاه عن ابن زيد. وقوله تعالى "إلا الذين ظلموا منهم" أي حادوا عن وجه الحق وعموا عن واضح المحجة وعاندوا وكابروا فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم قال الله عز وجل "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد - إلى قوله - إن الله قوي عزيز" قال جابر; أمرنا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف قال مجاهد "إلا الذين ظلموا منهم" يعني أهل الحرب ومن امتنع منهم من أداء الجزية. وقوله تعالى "وقولوا آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم" يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلا ولكن نؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط وهو أن يكون منزلا لا مبدلا ولا مؤولا. قال البخاري رحمه الله حدثنا محمد بن بشار حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبى سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال; كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" وهذا الحديث تفرد به البخاري. وقال الإمام أحمد حدثنا عثمان بن عمرو أخبرنا يونس عن الزهري أخبرني ابن أبي نملة أن أبا نملة الأنصاري أخبره أنه بينا هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله أعلم" قال اليهودي أنا أشهد أنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله فإن كان حقا لم تكذبوهم وإن كان باطلا لم تصدقوهم" "قلت" وأبو نملة هذا هو عمارة وقيل عمار وقيل عمرو بن معاذ بن زرارة الأنصاري رضي الله عنه ثم ليعلم أن أكثر ما يتحدثون به غالبه كذب وبهتان لأنه قد دخلت تحريف وتبديل وتغيير وتأويل وما أقل الصدق فيه ثم ما أقل فائدة كثير منه لو كان صحيحا. قال ابن جرير حدثنا ابن بشار حدثنا أبو عاصم أخبرنا سفيان عن سليمان بن عامر عن عمارة بن عمير عن حريث بن ظهير عن عبدالله - هو ابن مسعود- قال لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال وقال البخاري حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرنا ابن شهاب عن عبدالله بن عبدالله عن ابن عباس قال; كيف تسألوا أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث تقرءونه محضا لم يشب وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم وقال البخاري وقال أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبدالرحمن أنه سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب "قلت" معناه أنه يقع منه الكذب لغة من غير قصد لأنه يحدث عن صحف هو يحسن بها الظن وفيها أشياء موضوعة ومكذوبة لأنهم لم يكن في ملتهم حفاظ متقنون كهذه الأمة العظيمة ومع ذلك وقرب العهد وضعت أحاديث كثيرة في هذه الأمة لا يعلمها إلا الله عز وجل ومن منحه الله تعالى علما بذلك كل بحسبه ولله الحمد والمنة.
قوله تعالى ; ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمونفيه مسألتان ;الأولى ; اختلف العلماء في قوله تعالى ; ولا تجادلوا أهل الكتاب فقال مجاهد ; هي محكمة فيجوز مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن على معنى الدعاء لهم إلى الله عز وجل والتنبيه على حججه وآياته ; رجاء إجابتهم إلى الإيمان ، لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة . وقوله على هذا ; إلا الذين ظلموا منهم معناه ; ظلموكم ، وإلا فكلهم ظلمة [ ص; 323 ] على الإطلاق . وقيل ; المعنى ; لا تجادلوا من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب المؤمنين كعبد الله بن سلام ومن آمن معه . إلا بالتي هي أحسن أي بالموافقة فيما حدثوكم به من أخبار أوائلهم وغير ذلك . وقوله على هذا التأويل ; إلا الذين ظلموا يريد به من بقي على كفره منهم ، كمن كفر وغدر من قريظة والنضير وغيرهم . والآية على هذا أيضا محكمة . وقيل ; هذه الآية منسوخة بآية القتال ; قوله تعالى ; قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله قاله قتادة إلا الذين ظلموا أي جعلوا لله ولدا ، وقالوا ; يد الله مغلولة و إن الله فقير فهؤلاء المشركون الذين نصبوا الحرب ولم يؤدوا الجزية فانتصروا منهم . قال النحاس وغيره ; من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض ولا طلب جزية ولا غير ذلك وقول مجاهد حسن ; لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها ; إنها منسوخة ، إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول . واختار هذا القول ابن العربي .قال مجاهد وسعيد بن جبير ; وقوله ; إلا الذين ظلموا منهم معناه إلا الذين نصبوا للمؤمنين الحرب فجدالهم بالسيف حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية .الثانية ; قوله تعالى ; وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم روى البخاري عن أبي هريرة قال ; كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ; لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم . وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ; لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحق وإما أن تصدقوا بباطل . وفي البخاري ; عن حميد بن عبد الرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال ; إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب .
القول في تأويل قوله تعالى ; وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)يقول تعالى ذكره; (وَلا تُجَادِلُوا) أيها المؤمنون بالله وبرسوله اليهود والنصارى، وهم (أَهْلَ الكِتابِ إلا بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) يقول; إلا بالجميل من القول، وهو الدعاء إلى الله بآياته، والتنبيه على حُججه.وقوله; (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بعضهم; معناه; إلا الذين أبوا أن يقرّوا لكم بإعطاء الجزية، ونصبوا دون ذلك لكم حربا، فإنهم ظلمة، فأولئك جادلوهم بالسيف حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية.* ذكر من قال ذلك;حدثني علي بن سهل، قال; ثنا يزيد، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله; ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) قال; من قاتل ولم يُعط الجزية.حدثنا ابن وكيع، قال; ثني أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد، بنحوه. إلا أنه قال; من قاتلك ولم يعطك الجزية.حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال; إن قالوا شرّا؛ فقولوا خيرا، ( إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فانتصروا منهم.حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله; (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) قال; قالوا; مع الله إله، أو له ولد، أو له شريك، أو يد الله مغلولة، أو الله فقير، أو آذوا محمدا صلى الله عليه وسلم، قال; هم أهل الكتاب.حدثنا ابن وكيع، قال; ثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن سالم، عن سعيد ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) قال; أهل الحرب، من لا عهد له جادله بالسيف.وقال آخرون; معنى ذلك; (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتابِ) الذين قد آمنوا به، واتبعوا رسوله فيما أخبروكم عنه مما في كتبهم ( إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) فأقاموا على كفرهم، وقالوا; هذه الآية محكمة، وليست بمنسوخة.* ذكر من قال ذلك;حدثني يونس، قال; أخبرنا ابن وهب، قال; قال ابن زيد، في قوله; ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) قال; ليست بمنسوخة، لا ينبغي أن تجادل من آمن منهم، لعلهم يحسنون شيئا في كتاب الله، لا تعلمه أنت فلا تجادله، ولا ينبغي أن تجادل إلا الذين ظلموا، المقيمَ منهم على دينه. فقال; هو الذي يُجادَلُ، ويقال له بالسيف (1) قال; وهؤلاء يهود. قال; ولم يكن بدار الهجرة من النصارى أحد، إنما كانوا يهودا هم الذي كلَّموا وحالفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغدرت النضير يوم أُحد، وغدرت قُريظة يوم الأحزاب.وقال آخرون; بل نـزلت هذه الآية قبل أن يؤمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بالقتال، وقالوا; هي منسوخة، نسخها قوله; قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ .* ذكر من قال ذلك;حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله; ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) ثم نسخ بعد ذلك، فأمر بقتالهم في سورة براءة، ولا مجادلة أشدّ من السيف، أن يقاتلوا حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقرّوا بالخراج.وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال; عني بقوله; (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ; إلا الذين امتنعوا من أداء الجزية، ونصبوا دونها الحرب.فإن قال قائل; أو غير ظالم من أهل الكتاب إلا من لم يؤدّ الجزية؟ قيل; إن جميعهم، وإن كانوا لأنفسهم بكفرهم بالله، وتكذيبهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، ظلمة، فإنه لم يعن بقوله; (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) . ظلم أنفسهم. وإنما عنى به; إلا الذين ظلموا منهم أهل الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فإن أولئك جادلوهم بالقتال.وإنما قلنا; ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب؛ لأن الله تعالى ذكره أذن للمؤمنين بجدال ظلمة أهل الكتاب، بغير الذي هو أحسن بقوله; (إلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) فمعلوم إذ كان قد أذن لهم في جدالهم، أن الذين لم يؤذن لهم في جدالهم إلا بالتي هي أحسن، غير الذين أذن لهم بذلك فيهم، وأنهم غير المؤمن؛ لأن المؤمن منهم غير جائز جداله إلا في غير الحقّ، لأنه إذا جاء بغير الحق، فقد صار في معنى الظلمة في الذي خالف فيه الحقّ، فإذ كان ذلك كذلك، تبين أن ألا معنى لقول من قال; عنى بقوله; ( وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ ) أهل الإيمان منهم، وكذلك لا معنى لقول من قال; نـزلت هذه الآية قبل الأمر بالقتال، وزعم أنها منسوخة؛ لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر، ولا دلالة على صحته من فطرة عقل.وقد بيَّنا في غير موضع من كتابنا، أنه لا يجوز أن يحكم على حكم الله في كتابه بأنه منسوخ إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر أو عقل.وقوله; ( وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله، الذين نهاهم أن يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن; إذا حدثكم أهل الكتاب أيها القوم عن كتبهم، وأخبروكم عنها بما يمكن ويجوز أن يكونوا فيه صادقين، وأن يكونوا فيه كاذبين، ولم تعلموا أمرهم وحالهم في ذلك، فقولوا لهم ( آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ ) مما في التوراة والإنجيل، ( وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ ) يقول; ومعبودنا ومعبودكم واحد ( وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) يقول; ونحن له خاضعون متذللون بالطاعة فيما أمرنا ونهانا.وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.ذكر الرواية بذلك;حدثنا محمد بن المثنى، قال; ثنا عثمان بن عمر، قال; أخبرنا عليّ، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال; كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم; " لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتابِ وَلا تُكَذّبُوُهْم، (وَقُولُوا آمَنَّا بالَّذِي أُنـزلَ إلَيْنا وأُنـزلَ إلَيْكُمْ وَإلَهُنَا وإلهُكُمْ وَاحِدٌ وَنحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)".حدثنا ابن بشار، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عطاء بن يسار قال; كان ناس من اليهود يحدثون ناسا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال; " لا تُصَدِّقُوهُمْ وَلا تُكَذّبُوهُمْ، (وَقُولُوا آمَنَّا بالَّذِي أُنـزلَ إلَيْنا وأُنـزلَ إلَيْكُمْ)".قال; ثنا أبو عامر، قال; ثنا سفيان، عن سليمان، عن عمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير، عن عبد الله قال; لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحقّ أو تصدّقوا بباطل، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال (2) .وكان مجاهد يقول في ذلك ما حدثني به محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله; ( إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ). قال; قالوا; مع الله إله، أو له ولد، أو له شريك، أو يد الله مغلولة، أو الله فقير، أو آذوا محمدا، ( وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنـزلَ إِلَيْنَا وَأُنـزلَ إِلَيْكُمْ ) لمن لم يقل هذا من أهل الكتاب.---------------------الهوامش ;الهوامش;(1) يقال له بالسيف; أي يرفع عليه السيف. قال في (اللسان; قول); والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال، وتطلقه على غير الكلام واللسان، فتقول; قال بيده; أي أخذ، وقال برجله; أي مشى. وقال الشاعر وقـالت لـه العينـان سـمعًا وطاعـةًأي أومأت. وقال بثوب; أي رفعه. وكل ذلك على المجاز والاتساع. وفي الأصل; و"يقال له; السبت" تحريف من الناسخ.(2) تالية اسم فاعل من تلاه يتلوه; إذا تبعه. يريد; داعية تدعوه إلى الاستمساك بدينه. وتالية المال; لعل المراد به; التابعة التي تتبع أمهاتها من صغار الإبل ونحوها.
ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل، أو بغير قاعدة مرضية، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولطف ولين كلام، ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد عن الباطل وتهجينه، بأقرب طريق موصل لذلك، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، إلا من ظلم من أهل الكتاب، بأن ظهر من قصده وحاله، أنه لا إرادة له في الحق، وإنما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة، فهذا لا فائدة في جداله، لأن المقصود منها ضائع.{ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ } أي: ولتكن مجادلتكم لأهل الكتاب مبنية على الإيمان بما أنزل إليكم وأنزل إليهم، وعلى الإيمان برسولكم ورسولهم، وعلى أن الإله واحد، ولا تكن مناظرتكم إياهم [على وجه] يحصل به القدح في شيء من الكتب الإلهية، أو بأحد من الرسل، كما يفعله الجاهل عند مناظرة الخصوم، يقدح بجميع ما معهم، من حق وباطل، فهذا ظلم، وخروج عن الواجب وآداب النظر، فإن الواجب، أن يرد ما مع الخصم من الباطل، ويقبل ما معه من الحق، ولا يرد الحق لأجل قوله، ولو كان كافرا. وأيضا، فإن بناء مناظرة أهل الكتاب، على هذا الطريق، فيه إلزام لهم بالإقرار بالقرآن، وبالرسول الذي جاء به، فإنه إذا تكلم في الأصول الدينية التي اتفقت عليها الأنبياء والكتب، وتقررت عند المتناظرين، وثبتت حقائقها عندهما، وكانت الكتب السابقة والمرسلون مع القرآن ومحمد صلى اللّه عليه وسلم قد بينتها ودلت عليها وأخبرت بها، فإنه يلزم التصديق بالكتب كلها، والرسل كلهم، وهذا من خصائص الإسلام.فأما أن يقال: نؤمن بما دل عليه الكتاب الفلاني، دون الكتاب الفلاني وهو الحق الذي صدق ما قبله، فهذا ظلم وجور، وهو يرجع إلى قوله بالتكذيب، لأنه إذا كذب القرآن الدال عليها، المصدق لما بين يديه من التوراة، فإنه مكذب لما زعم أنه به مؤمن.وأيضا، فإن كل طريق تثبت به نبوة أي: نبي كان، فإن مثلها وأعظم منها، دالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، وكل شبهة يقدح بها في نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم، فإن مثلها أو أعظم منها، يمكن توجيهها إلى نبوة غيره، فإذا ثبت بطلانها في غيره، فثبوت بطلانها في حقه صلى اللّه عليه وسلم أظهر وأظهر.وقوله: { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي: منقادون مستسلمون لأمره. ومن آمن به، واتخذه إلها، وآمن بجميع كتبه ورسله، وانقاد للّه واتبع رسله، فهو السعيد، ومن انحرف عن هذا الطريق، فهو الشقي.
(الواو) استئنافيّة
(لا) ناهية جازمة
(إلّا) للحصر
(بالتي) متعلّق بـ (تجادلوا) ، أي بالمجادلة التي،
(إلّا) للاستثناء
(الذين) موصول في محلّ نصب على الاستثناء
(منهم) متعلّق بحال من فاعل ظلموا
(الواو) عاطفة في المواضع الأربعة
(بالذي) متعلّق بـ (آمنّا) ، ونائب الفاعل لفعلـ (أنزل) ضمير مستتر تقديره هو، وهو العائد،
(إلينا) متعلّق بـ (أنزل) ، وكذلك
(إليكم) متعلّق بالثاني
(له) متعلّق بـ (مسلمون) .
جملة: «لا تجادلوا ... » لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «هي أحسن ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (التي) .
وجملة: «ظلموا ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذين) .
وجملة: «قولوا ... » لا محلّ لها معطوفة على الاستئنافيّة.
وجملة: «آمنا ... » في محلّ نصب مقول القول.وجملة: «أنزل إلينا ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذي) .
وجملة: «أنزل إليكم ... » لا محلّ لها معطوفة على جملة أنزل إلينا.
وجملة: «إلهنا وإلهكم واحد ... » في محلّ نصب معطوفة على مقول القول.
وجملة: «نحن له مسلمون ... » في محلّ نصب معطوفة على مقول القول.
- القرآن الكريم - العنكبوت٢٩ :٤٦
Al-'Ankabut29:46