الرسم العثمانيإِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلٰى قَوْمٍۢ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثٰقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقٰتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقٰتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا
الـرسـم الإمـلائـياِلَّا الَّذِيۡنَ يَصِلُوۡنَ اِلٰى قَوۡمٍۢ بَيۡنَكُمۡ وَبَيۡنَهُمۡ مِّيۡثَاقٌ اَوۡ جَآءُوۡكُمۡ حَصِرَتۡ صُدُوۡرُهُمۡ اَنۡ يُّقَاتِلُوۡكُمۡ اَوۡ يُقَاتِلُوۡا قَوۡمَهُمۡ ؕ وَلَوۡ شَآءَ اللّٰهُ لَسَلَّطَهُمۡ عَلَيۡكُمۡ فَلَقٰتَلُوۡكُمۡ ۚ فَاِنِ اعۡتَزَلُوۡكُمۡ فَلَمۡ يُقَاتِلُوۡكُمۡ وَاَلۡقَوۡا اِلَيۡكُمُ السَّلَمَ ۙ فَمَا جَعَلَ اللّٰهُ لَـكُمۡ عَلَيۡهِمۡ سَبِيۡلًا
تفسير ميسر:
لكن الذين يتصلون بقوم بينكم وبينهم عهد وميثاق فلا تقاتلوهم، وكذلك الذين أتَوا إليكم وقد ضاقت صدورهم وكرهوا أن يقاتلوكم، كما كرهوا أن يقاتلوا قومهم، فلم يكونوا معكم ولا مع قومهم، فلا تقاتلوهم، ولو شاء الله تعالى لسلَّطهم عليكم، فلقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى صرفهم عنكم بفضله وقدرته، فإن تركوكم فلم يقاتلوكم، وانقادوا اليكم مستسلمين، فليس لكم عليهم من طريق لقتالهم.
فقال "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" أي إلا الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنه أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم وهذا قول السدي وابن زيد وابن جرير. وقد روى ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال; لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدو وأحد وأسلم من حولهم قال سراقة بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي بني مدلج فأتيته فقلت أنشدك النعمة فقالوا صه فقال النبي صلى الله عليه وسلم "دعوه ما تريد؟" قال بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال اذهب معه فافعل ما يريد فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم فأنزل الله ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء" ورواه ابن مردوية من طريق حماد بن سلمة وقال فأنزل الله "إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" فكان من وصل إليهم كان معهم على عهدهم وهذا أنسب لسياق الكلام. وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ومن أحب أن يدخل في صلح محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وعهدهم. وقد روى عن ابن عباس أنه قال نسخها قوله "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" الآية. وقوله "أو جاءوكم حصرت صدورهم" الآية. هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجيؤن إلى المصاف وهم حصرت صدورهم أي ضيقة صدورهم مبغضين أن يقاتلوكم ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم "ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم" أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم "فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم" أي المسالمة"فما جعل الله لكم عليهم سبيلا" أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره.
فقال إلا الذين يصلون أي يتصلون بهم ويدخلون فيما بينهم من الجوار والحلف ؛ المعنى ; فلا تقتلوا قوما بينهم وبين من بينكم وبينهم عهد فإنهم على عهدهم ثم انتسخت العهود فانتسخ هذا . هذا قول مجاهد وابن زيد وغيرهم ، وهو أصح ما قيل في معنى الآية . قال أبو عبيد ; يصلون ينتسبون ؛ ومنه قول الأعشى ;[ ص; 266 ]إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل وبكر سبتها والأنوف رواغميريد إذا انتسبت . قال المهدوي ; وأنكره العلماء ؛ لأن النسب لا يمنع من قتال الكفار وقتلهم . وقال النحاس ; وهذا غلط عظيم ؛ لأنه يذهب إلى أن الله تعالى حظر أن يقاتل أحد بينه وبين المسلمين نسب ، والمشركون قد كان بينهم وبين السابقين الأولين أنساب ، وأشد من هذا الجهل بأنه كان ثم نسخ ؛ لأن أهل التأويل مجمعون على أن الناسخ له " براءة " وإنما نزلت " براءة " بعد الفتح وبعد أن انقطعت الحروب . وقال معناه الطبري .قلت ; حمل بعض العلماء معنى ينتسبون على الأمان ؛ أي إن المنتسب إلى أهل الأمان آمن إذا أمن الكل منهم ، لا على معنى النسب الذي هو بمعنى القرابة . واختلف في هؤلاء الذين كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق ؛ فقيل ; بنو مدلج . عن الحسن ; كان بينهم وبين قريش عقد ، وكان بين قريش وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد . وقال عكرمة ; نزلت في هلال بن عويمر وسراقة بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد . وقيل ; خزاعة . وقال الضحاك عن ابن عباس ; أنه أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة ، كانوا في الصلح والهدنة .الثالثة ; في هذه الآية دليل على إثبات الموادعة بين أهل الحرب وأهل الإسلام إذا كان في الموادعة مصلحة للمسلمين ، على ما يأتي بيانه في " الأنفال " " وبراءة " إن شاء الله تعالى .الرابعة ; أو جاءوكم حصرت صدورهم أي ضاقت . وقال لبيد ;أسهلت وانتصبت كجذع منيفة جرداء يحصر دونها جرامهاأي تضيق صدورهم من طول هذه النخلة ؛ ومنه الحصر في القول وهو ضيق الكلام على المتكلم . والحصر الكتوم للسر ؛ قال جرير ;ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا حصرا بسرك يا أميم ضنيناومعنى " حصرت " " قد حصرت " فأضمرت " قد " ، قال الفراء ; وهو حال من المضمر المرفوع في جاءوكم كما تقول ; جاء فلان ذهب عقله ، أي قد ذهب عقله . وقيل ; هو خبر بعد خبر قاله الزجاج . أي جاءوكم ثم أخبر فقال ; حصرت صدورهم فعلى هذا يكون حصرت بدلا من جاءوكم كما قيل ; حصرت في موضع خفض على النعت لقوم . وفي حرف أبي " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق حصرت صدورهم " ليس فيه أو جاءوكم . وقيل ; تقديره أو جاءوكم رجالا أو قوما حصرت صدورهم ؛ فهي صفة [ ص; 267 ] موصوف منصوب على الحال . وقرأ الحسن " أو جاءوكم حصرة صدورهم " نص على الحال ، ويجوز رفعه على الابتداء والخبر . وحكى " أو جاءوكم حصرات صدورهم " ، ويجوز الرفع . وقال محمد بن يزيد ; حصرت صدورهم هو دعاء عليهم ؛ كما تقول ; لعن الله الكافر ؛ وقاله المبرد . وضعفه بعض المفسرين وقال ; هذا يقتضي ألا يقاتلوا قومهم ؛ وذلك فاسد ؛ لأنهم كفار وقومهم كفار . وأجيب بأن معناه صحيح ، فيكون عدم القتال في حق المسلمين تعجيزا لهم ، وفي حق قومهم تحقيرا لهم . وقيل ; أو بمعنى الواو ؛ كأنه يقول ; إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقة صدورهم عن قتالكم والقتال معكم فكرهوا قتال الفريقين . ويحتمل أن يكونوا معاهدين على ذلك فهو نوع من العهد ، أو قالوا نسلم ولا نقاتل ؛ فيحتمل أن يقبل ذلك منهم في أول الإسلام حتى يفتح الله قلوبهم للتقوى ويشرحها للإسلام . والأول أظهر . والله أعلم . أو يقاتلوا في موضع نصب ؛ أي عن أن يقاتلوكم .الخامسة ; قوله تعالى ; ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم تسليط الله تعالى المشركين على المؤمنين هو بأن يقدرهم على ذلك ويقويهم إما عقوبة ونقمة عند إذاعة المنكر وظهور المعاصي ، وإما ابتلاء واختبارا كما قال تعالى ; ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ، وإما تمحيصا للذنوب كما قال تعالى ; وليمحص الله الذين آمنوا ولله أن يفعل ما يشاء ويسلط من يشاء على من يشاء إذا شاء . ووجه النظم والاتصال بما قبل أي اقتلوا المنافقين الذين اختلفتم فيهم إلا أن يهاجروا ، وإلا أن يتصلوا بمن بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون فيما دخلوا فيه فلهم حكمهم ، وإلا الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم فلا تقتلوهم .
القول في تأويل قوله ; إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌقال أبو جعفر; يعني جل ثناؤه بقوله; " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، فإن تولىَّ هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله، وأبوا الهجرة فلم يهاجروا في سبيل الله، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من وَصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم مُوادعة وعهد وميثاق، (35) فدخلوا فيهم، وصاروا منهم، ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيًا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم; أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تغنم أموالهم، كما; -10069- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي; " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، يقول; إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحدٌ منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرُون على أهل الذمة.10070- حدثني يونس، عن ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله; " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء.10071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة قوله; " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، قال نـزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف. (36)* * *وقد زعم بعض أهل العربية، (37) أن معنى قوله; " إلا الذين يصلون إلى قوم "، إلا الذين يتَّصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق، من قولهم; " اتّصل الرجل "، بمعنى; انتمى وانتسب، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم;إذَا اتَّصَلَـتْ قَـالَتْ; أَبَكْـرَ بنَ وَائِلٍ!وَبَكْــرٌ سَـبَتْهَا وَالأنُـوفُ رَوَاغِـمُ! (38)يعني بقوله; " اتصلت "، انتسبت.* * *قال أبو جعفر; ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد، لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم، إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما لهم، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيقاتل قريشًا وهم أنسباءُ السابقين الأوَّلين. ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم، أكثر مما لأهل العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش= بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم - الدليلُ الواضح أنّ انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه.فإن ظن ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل من أنسباء المؤمنين من مشركي قريش، إنما كان بعد ما نُسخ قوله; " إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "، فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ناسخ ذلك " براءة "، و " براءة " نـزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام. (39)* * *القول في تأويل قوله ; أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْقال أبو جعفر; يعني جل ثناؤه بقوله; " أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم "، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ = إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ = أو; إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم.ويعني بقوله; " حصرت صدورهم "، ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن يقاتلوا قومهم.والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام; " قد حَصِرَ"، ومنه " الحَصَرُ" في القراءة. (40)* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.*ذكر من قال ذلك;10072- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي; " أو جاءوكم حصرت صدورهم "، يقول; رجعوا فدخلوا فيكم=" حصرت صدورهم "، يقول; ضاقت صدورهم=" أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ".* * *وفي قوله; " أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم "، متروكٌ، ترك ذكره لدلالة الكلام عليه. وذلك أن معناه; أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، فترك ذكر " قد "، لأن من شأن العرب فعل مثل ذلك; تقول; " أتاني فلان ذَهَب عقله "، بمعنى; قد ذهب عقله. ومسموع منهم; " أصبحت نظرتُ إلى ذات التَّنانير "، بمعنى; قد نظرت. (41) ولإضمار " قد " مع الماضي، جاز وضع الماضي من الأفعال في موضع الحال، لأن " قد " إذا دخلت معه أدْنته من الحال، وأشبهت الأسماء. (42)* * *وعلى هذه القراءة= أعني" حَصِرَت "، قراءة القرأة في جميع الأمصار، وبها يقرأ لإجماع الحجة عليها.* * *وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك; ( أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ )، نصبًا، (43) وهي صحيحة في العربية فصيحة، غير أنه غير جائزة القراءة بها عندي، لشذوذها وخروجها عن قراءة قرأة الإسلام.* * *القول في تأويل قوله ; وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90)قال أبو جعفر; يعني جل ثناؤه; " ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم "، ولو شاء الله لسلّط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون في جوارهم وذمتهم، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم= عليكم، (44) أيها المؤمنون، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى ذكره كفَّهم عنكم. يقول جل ثناؤه; فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفِّهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم، فيما أمركم به من الكفِّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاؤوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جل ثناؤه; " فإن اعتزلوكم "، يقول; فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم من المنافقين، بدخولهم في أهل عهدكم، أو مصيرهم إليكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم=" فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم "، يقول; وصالحوكم.* * *و " السَّلَم "، هو الاستسلام. (45) وإنما هذا مثلٌ، كما يقول الرجل للرجل; " أعطيتك قِيادي"، و " ألقيت إليك خِطَامي"، إذا استسلم له وانقاد لأمره. فكذلك قوله; " وألقوا إليكم السلم "، إنما هو; ألقوا إليكم قيادَهم واستسلموا لكم، صلحًا منهم لكم وسَلَمًا. ومن " السَّلم " قول الطرمَّاح;وَذَاكَ أَنَّ تَمِيمًــا غَــادَرَتْ سَــلَمًالِلأسْــدِ كُـلَّ حَصَـانٍ وَعْثَـةِ اللِّبَـدِ (46)يعني بقوله; " سلمًا "، استسلامًا.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.*ذكر من قال ذلك;10073- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي جعفر; عن أبيه، عن الربيع; " فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم "، قال; الصلح.* * *وأما قوله; " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا "، فإنه يقول; إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم، صلحًا منهم لكم=" فما جعل الله لكم عليهم سبيلا "، أي; فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقًا إلى قتل أو سباء أو غنيمة، بإباحةٍ منه ذلك لكم ولا إذْنٍ، فلا تعرَّضوا لهم في ذلك= إلا سبيل خير* * *ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره;فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ إلى قوله; فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة; 5].ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا;10074- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن قالا قال; فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ إلى قوله; وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا وقال في" الممتحنة "; لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ، وقال فيها; إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ إلى فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة الممتحنة; 8 ، 9]. فنسخ هؤلاء الآيات الأربعة في شأن المشركين فقال; بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [سورة التوبة; 1، 2]. فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وأبطل ما كان قبل ذلك. وقال في التي تليها; فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، ثم نسخ واستثنى فقال; فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ إلى قوله; ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [سورة التوبة; 5 ، 6].10075- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله; " فإن اعتزلوكم "، قال; نسختها; فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .10076- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة; يقول في قوله; إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ إلى قوله; " فما جعل الله لكم عليهم سبيلا "، ثم نسخ ذلك بعد في براءة، وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله; فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ .10077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال، قال ابن زيد في قوله; إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ، الآية، قال; نسخ هذا كله أجمع، نسخه الجهاد، ضرب لهم أجل أربعة أشهر; إما أن يسلموا، وإما أن يكون الجهاد.
فأخبرهم الله تعالى أنه لا ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ولا تشكوا، بل أمرهم واضح غير مشكل، إنهم منافقون قد تكرر كفرهم، وودوا مع ذلك كفركم وأن تكونوا مثلهم. فإذا تحققتم ذلك منهم { فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ } وهذا يستلزم عدم محبتهم لأن الولاية فرع المحبة. ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لأن النهي عن الشيء أمر بضده، وهذا الأمر موقت بهجرتهم فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري أحكام الإسلام لكل مَنْ كان معه وهاجر إليه، وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر الإيمان. وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } أي: في أي وقت وأي محل كان، وهذا من جملة الأدلة الدالة على نسخ القتال في الأشهر الحرم، كما هو قول جمهور العلماء، والمنازعون يقولون: هذه نصوص مطلقة، محمولة على تقييد التحريم في الأشهر الحرم. ثم إن الله استثنى من قتال هؤلاء المنافقين ثلاث فِرَق: فرقتين أمر بتركهم وحتَّم [على] ذلك، إحداهما من يصل إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم، فيكون له حكمهم في حقن الدم والمال. والفرقة الثانية قوم { حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ } أي: بقوا، لا تسمح أنفسهم بقتالكم، ولا بقتال قومهم، وأحبوا ترك قتال الفريقين، فهؤلاء أيضا أمر بتركهم، وذكر الحكمة في ذلك في قوله: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } فإن الأمور الممكنة ثلاثة أقسام: إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم، وهذا متعذر من هؤلاء، فدار الأمر بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين، وهو أهون الأمرين عليكم، والله قادر على تسليطهم عليكم، فاقبلوا العافية، واحمدوا ربكم الذي كف أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك. فـهؤلاء { إن اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا } الفرقة الثالثة: قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم، وهم الذين قال الله فيهم: { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ } أي: من هؤلاء المنافقين. { يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ } أي: خوفا منكم { وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي: لا يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم، وكلما عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم، وازداد كفرهم ونفاقهم، وهؤلاء في الصورة كالفرقة الثانية، وفي الحقيقة مخالفة لها. فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترامًا لهم لا خوفا على أنفسهم، وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا لا احتراما، بل لو وجدوا فرصة في قتال المؤمنين، فإنهم مستعدون لانتهازها، فهؤلاء إن لم يتبين منهم ويتضح اتضاحًا عظيمًا اعتزال المؤمنين وترك قتالهم، فإنهم يقاتلون، ولهذا قال: { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي: المسالمة والموادعة { وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي: حجة بينة واضحة، لكونهم معتدين ظالمين لكم تاركين للمسالمة، فلا يلوموا إلا أنفسهم.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة
- القرآن الكريم - النساء٤ :٩٠
An-Nisa'4:90