يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ
يٰۤاَيُّهَا الَّذِيۡنَ اٰمَنُوۡا لِمَ تَقُوۡلُوۡنَ مَا لَا تَفۡعَلُوۡنَ
تفسير ميسر:
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه، لِمَ تَعِدون وعدًا، أو تقولون قولا ولا تفون به؟! وهذا إنكار على مَن يخالف فعلُه قولَه.
وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون إنكار على من يعد وعدا أو يقول قولا لا يفي به ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا سواء ترتب عليه عزم الموعود أم لا واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " آية المنافق ثلاث إذا وعد أخلف وإذا حدث كذب وإذا أؤتمن خان " وفي الحديث الآخر في الصحيح " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه واحدة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها " فذكر منهن إخلاف الوعد وقد استقصينا الكلام على هذين الحديثين في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم.
قوله تعالى ; يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون روى الدارمي أبو محمد في مسنده أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال ; قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا ; لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه ; فأنزل الله تعالى ; سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون حتى ختمها . قال عبد الله ; فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ختمها . قال أبو سلمة ; فقرأها علينا ابن سلام . قال يحيى ; فقرأها علينا أبو سلمة وقرأها علينا يحيى وقرأها علينا الأوزاعي وقرأها علينا [ ص; 70 ] محمد . وقال ابن عباس قال عبد الله بن رواحة ; لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه ; فلما نزل الجهاد كرهوه . وقال الكلبي ; قال المؤمنون ; يا رسول الله ، لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها ; فنزلت هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم فمكثوا زمانا يقولون ; لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ; فدلهم الله تعالى عليها بقوله ; تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم الآية . فابتلوا يوم أحد ففروا ; فنزلت تعيرهم بترك الوفاء . وقال محمد بن كعب ; لما أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بثواب شهداء بدر قالت الصحابة ; اللهم اشهد ! لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ; ففروا يوم أحد فعيرهم الله بذلك . وقال مهران والضحاك ; نزلت في قوم كانوا يقولون ; نحن جاهدنا وأبلينا ولم يفعلوا . وقال صهيب ; كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر وأنكاهم فقتلته . فقال رجل ; يا نبي الله ، إني قتلت فلانا ، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بذلك . فقال عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف ; يا صهيب ، أما أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك قتلت فلانا ! فإن فلانا انتحل قتله ; فأخبره فقال ; أكذلك يا أبا يحيى ؟ قال ; نعم والله يا رسول الله ; فنزلت الآية في المنتحل . وقال ابن زيد ; نزلت في المنافقين ; كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ; إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا ; فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا .هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها . وفي صحيح مسلم عن أبي موسى أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن ; فقال ; أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم ، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم . وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ب " براءة " فأنسيتها ; غير أني قد حفظت منها " لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب " . وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها ; غير أني حفظت منها ; يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم [ ص; 71 ] القيامة . قال ابن العربي ; وهذا كله ثابت في الدين . أما قوله تعالى ; يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة . وأما قوله ; " شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة " فمعنى ثابت في الدين ; فإن من التزم شيئا لزمه شرعا . والملتزم على قسمين ; أحدهما ; النذر ، وهو على قسمين ، نذر تقرب مبتدأ كقوله ; لله علي صلاة وصوم وصدقة ، ونحوه من القرب . فهذا يلزم الوفاء به إجماعا . ونذر مباح وهو ما علق بشرط رغبة ، كقوله ; إن قدم غائبي فعلي صدقة ، أو علق بشرط رهبة ، كقوله ; إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة . فاختلف العلماء فيه ، فقال مالك وأبو حنيفة ، يلزمه الوفاء به . وقال الشافعي في أحد أقواله ; إنه لا يلزمه الوفاء به . وعموم الآية حجة لنا ، لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيد بشرط . وقد قال أصحابه ; إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة . وهذا وإن كان من جنس القربة لكنه لم يقصد به القربة ، وإنما قصد منع نفسه عن فعل أو الإقدام على فعل .قلنا ; القرب الشرعية مشقات وكلف وإن كانت قربات . وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة لجلب نفع أو دفع ضر ، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب . قال ابن العربي ; فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله ; إن تزوجت أعنتك بدينار ، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا . فهذا لازم إجماعا من الفقهاء . وإن كان وعدا مجردا فقيل يلزم بتعلقه . وتعلقوا بسبب الآية ، فإنه روي أنهم كانوا يقولون ; لو نعلم أي الأعمال أفضل أو أحب إلى الله لعملناه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وهو حديث لا بأس به . وقد روي عن مجاهد أن عبد الله بن رواحة لما سمعها قال ; لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أقتل . والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر .قلت ; قال مالك ; فأما العدة مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم ; ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى ذلك يلزمه . وقال ابن القاسم ; إذا وعد الغرماء فقال ; أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدي إليكم ; فإن هذا يلزمه . وأما أن يقول نعم أنا أفعل ; ثم يبدو له ، فلا أرى عليه ذلك .[ ص; 72 ] قلت ; أي لا يقضي عليه بذلك ; فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم . وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره فقال ; والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ، وقال تعالى ; واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وقد تقدم بيانه .قال المثنى ; ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه ، يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون . وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة أن أنس بن مالك قال ; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ; " أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت . قلت ; من هؤلاء يا جبريل ؟ قال ; هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرءون كتاب الله ولا يعملون " . وعن بعض السلف أنه قيل له ; حدثنا ; فسكت . ثم قيل له ; حدثنا . فقال ; أترونني أن أقول ما لا أفعل فأستعجل مقت الله !قوله تعالى ; لم تقولون ما لا تفعلون استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله . أما في الماضي فيكون كذبا ، وأما في المستقبل فيكون خلفا ، وكلاهما مذموم . وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى ; لم تقولون ما لا تفعلون أي لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم ، فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون . فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول .
وقوله; ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) يقول تعالى ذكره; يا أيها الذين آمنوا صدّقوا الله ورسوله، لم تقولون القول الذي لا تصدّقونه بالعمل، فأعمالكم مخالفة أقوالكم ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) يقول; عظم مقتًا عند ربكم قولكم ما لا تفعلون.واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أُنـزلت هذه الآية، فقال بعضهم; أُنـزلت توبيخًا من الله لقوم من المؤمنين، تمنوا معرفة أفضل الأعمال، فعرّفهم الله إياه، فلما عرفوا قصروا، فعوتبوا بهذه الآية.* ذكر من قال ذلك ;حدثني عليّ، قال; ثنا أبو صالح، قال; ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله; ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال; كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون; لوددنا أن الله دلنا على أحبّ الأعمال إليه، فنعمل به، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شكّ فيه، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقرّوا به؛ فلما نـزل الجهاد، كره ذلك أُناس من المؤمنين، وشقّ عليهم أمره، فقال الله; ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ )حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال; ثني عمي، قال; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله; ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال; كان قوم يقولون; والله لو أنا نعلم ما أحب الأعمال إلى الله؟ لعملناه، فأنـزل الله على نبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم; ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا ) ... إلى قوله; بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ فدلهم على أحبّ الأعمال إليه.حدثنا ابن حُمَيْد، قال; ثنا مهران، عن سفيان، عن محمد بن جحادة، عن أَبي صالح، قال; قالوا; لو كنا نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله وأفضل، فنـزلت; يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ فكرهوا، فنـزلت ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) .حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أَبو عاصم، قال; ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) ... إلى قوله; مَرْصُوصٌ فيما بين ذلك في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة، قالوا في مجلس; لو نعلم أيّ الأعمال أحب إلى الله لعملنا بها حتى نموت، فأنـزل الله هذا فيهم، فقال عبد الله بن رواحة; لا أزال حبيسًا في سبيل الله حتى أموت، فقتل شهيدا.وقال آخرون; بل نـزلت هذه الآية في توبيخ قوم من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، كان أحدهم يفتخر بالفعل من أفعال الخير التي لم يفعلها، فيقول فعلت كذا وكذا، فعذلهم الله على افتخارهم بما لم يفعلوا كذّبا.* ذكر من قال ذلك ;حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال ; ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله; ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) قال; بلغني أنها كانت في الجهاد، كان الرجل يقول; قاتلت وفعلت، ولم يكن فعل، فوعظهم الله في ذلك أشدّ الموعظة.حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة، قوله; ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) يؤذنهم ويعلمهم كما تسمعون.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } أي: لم تقولون الخير وتحثون عليه، وربما تمدحتم به وأنتم لا تفعلونه، وتنهون عن الشر وربما نزهتم أنفسكم عنه، وأنتم متلوثون به ومتصفون به.
(أيّها) منادى نكرة مقصودة مبنيّ على الضمّ في محلّ نصبـ (الذين) بدل من أيّ في محلّ نصب- أو عطف بيان عليه-
(لم) متعلّقبـ (تقولون) ، و (ما) استفهاميّة حذفت ألفها،
(ما) موصول في محلّ نصب مفعول به والعائد محذوف
(لا) نافية
(مقتا) تمييز منصوبـ (أن) حرف مصدريّ ونصبـ (عند) ظرف منصوب متعلّق بـ (كبر) ...جملة: «النداء ... » لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «آمنوا ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذين) .
وجملة: «تقولون ... » لا محلّ لها جواب النداء.
وجملة: «لا تفعلون ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (ما) .
وجملة: «كبر ... » لا محلّ لها استئناف بيانيّ.
وجملة: «تقولوا ... » لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ
(أن) .
والمصدر المؤوّلـ (أن تقولوا..) في محلّ رفع فاعل كبر.
وجملة: «لا تفعلون
(الثانية) ... » لا محلّ لها صلة
(ما) .