بَلٰى قٰدِرِينَ عَلٰىٓ أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُۥ
بَلٰى قٰدِرِيۡنَ عَلٰٓى اَنۡ نُّسَوِّىَ بَنَانَهٗ
تفسير ميسر:
أقسم الله سبحانه بيوم الحساب والجزاء، وأقسم بالنفس المؤمنة التقية التي تلوم صاحبها على ترك الطاعات وفِعْل الموبقات، أن الناس يبعثون. أيظنُّ هذا الإنسان الكافر أن لن نقدر على جَمْع عظامه بعد تفرقها؟ بلى سنجمعها، قادرين على أن نجعل أصابعه أو أنامله -بعد جمعها وتأليفها- خَلْقًا سويًّا، كما كانت قبل الموت.
قال سعيد بن جبير والعوفي عن ابن عباس أن نجعله خفا أو حافرا وكذا قال مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والضحاك وابن جرير ووجهه ابن جرير بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا والظاهر من الآية أن قوله تعالى "قادرين" حال من قوله تعالى "نجمع" أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه أي قدرتنا صالحة لجمعها ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان فتجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج.
بلى وقف حسن ثم تبتدئ ( قادرين ) . قال سيبويه ; على معنى نجمعها قادرين ، ف ( قادرين ) حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف على ما ذكرناه من التقدير . وقيل ; المعنى بل نقدر قادرين . قال الفراء ; قادرين نصب على الخروج من نجمع أي نقدر ونقوى قادرين على أكثر من ذلك . وقال أيضا ; يصلح نصبه على التكرير أي بلى فليحسبنا قادرين . وقيل ; المضمر ( كنا ) أي كنا قادرين في الابتداء ، وقد اعترف به المشركون . وقرأ ابن أبي عبلة وابن السميقع أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه بتأويل نحن قادرون .على أن نسوي بنانه البنان عند العرب ; الأصابع ، واحدها بنانة ; قال النابغة ;بمخضب رخص كأن بنانه عنم يكاد من اللطافة يعقدوقال عنترة ;وأن الموت طوع يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوانيفنبه بالبنان على بقية الأعضاء . وأيضا فإنها أصغر العظام ، فخصها بالذكر لذلك .قال القتبي والزجاج ; وزعموا أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام ; فقال الله تعالى ; بلى قادرين على أن نعيد السلاميات على صغرها ، ونؤلف بينها حتى تستوي ، ومن قدر على هذا فهو على جمع الكبار أقدر .وقال ابن عباس وعامة المفسرين ; المعنى على أن نسوي بنانه أي نجعل أصابع يديه ورجليه شيئا واحدا كخف البعير ، أو كحافر الحمار ، أو كظلف [ ص; 87 ] الخنزير ، ولا يمكنه أن يعمل به شيئا ، ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء . وكان الحسن يقول ; جعل لك أصابع فأنت تبسطهن ، وتقبضهن بهن ، ولو شاء الله لجمعهن فلم تتق الأرض إلا بكفيك . وقيل ; أي نقدر أن نعيد الإنسان في هيئة البهائم ، فكيف في صورته التي كان عليها ; وهو كقوله تعالى ; وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون .قلت ; والتأويل الأول أشبه بمساق الآية . والله أعلم .
حدثنا ابن حميد، قال; ثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي الخير بن تميم، عن سعيد بن جُبير، قال; قال لي ابن عباس; سل، فقلت; ( أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ) قال; لو شاء لجعله خفا أو حافرا.حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال; ثني عمي، قال; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله; ( بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال; أنا قادر على أن أجعل كفه مجمرة مثل خفّ البعير.حدثنا أبو كريب، قال; ثنا ابن عطية، عن إسرائيل، عن مغيرة، عمن حدثه عن سعيد بن جُبير عن ابن عباس ( قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال; نجعله خفا أو حافرا.قال; ثنا وكيع، عن النضر، عن عكرِمة ( عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال; على أن نجعله مثل خفّ البعير، أو حافر الحمار.حدثني يعقوب، قال; ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله; ( بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال; جعلها يدا، وجعلها أصابع يقبضهنّ ويبسطهنّ، ولو شاء لجمعهنّ، فاتقيت الأرض بفيك، ولكن سوّاك خلقا حسنا. قال أبو رجاء; وسُئل عكرِمة فقال; لو شاء لجعلها كخفّ البعير.حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله; ( عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) رجليه، قال; كخفّ البعير فلا يعمل بهما شيئا.حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة، قوله; ( بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قادر والله على أن يجعل بنانه كحافر الدابة، أو كخفّ البعير، ولو شاء لجعله كذلك، فإنما ينقي طعامه بفيه.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال; ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله; ( عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال; لو شاء جعل بنانه مثل خفّ البعير، أو حافر الدابة.حُدثت عن الحسين، قال; سمعت أبا معاذ يقول; ثنا عبيد، قال; سمعت الضحاك يقول في قوله; ( عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ) قال; البنان; الأصابع، يقول; نحن قادرون على أن نجعل بنانه مثل خفّ البعير.واختلف أهل العربية في وجه نصب ( قَادِرِينَ ) فقال بعضهم; نصب لأنه واقع موقع نفعل، فلما ردّ إلى فاعل نصب، وقالوا; معنى الكلام; أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى نقدر على أن نسوّي بنانه ; ثم صرف نقدر إلى قادرين. وكان بعض نحويِّي الكوفة يقول; نصب على الخروج من نجمع، كأنه قيل في الكلام; أيحسب أن لن نقوَى عليه ؟ بل قادرين على أقوى منك. يريد; بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا. وقال; قول الناس بلى نقدر، فلما صرفت إلى قادرين نصبت خطأ، لأن الفعل لا ينصب بتحويله من يفعل إلى فاعل. ألا ترى أنك تقول; أتقوم إلينا، فإن حوّلتها إلى فاعل قلت; أقائم، وكان خطأ أن تقول قائما; قال; وقد كانوا يحتجون بقول الفرزدق;عَـليَّ قَسَـم لا أشْـتُمُ الدَّهْـرَ مُسْـلِماوَلا خارِجــا مِـنْ فِـيَّ زُورُ كَـلام (6)فقالوا; إنما أراد; لا أشتم ولا يخرج، فلما صرفها إلى خارج نصبها، وإنما نصب لأنه أراد; عاهدت ربي لا شاتما أحدا، ولا خارجا من فيّ زور كلام ; وقوله; لا أشتم، في موضع نصب. وكان بعض نحويِّي البصرة يقول; نصب على نجمع، أي بل نجمعها قادرين على أن نسوّي بنانه، وهذا القول الثاني أشبه بالصحة على مذهب أهل العربية.----------------الهوامش ;(6) البيت للفرزدق ( ديوانه 769 طبع الصاوي ) من قصيدة قالها في المربد، ويروى; " علي حلفة " في موضع " علي قسم ". وقد أنشده الفراء في معاني القرآن ( 349 ) عند قوله تعالى; { بلى قادرين } قال; وقوله; { بلى قادرين } نصبت على الخروج من نجمع، كأنك قلت في الكلام; أتحسب أن لن نقوى عليك، بلى قادرين على إقوامك، يريد; بلى نقوى قادرين، بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا. قال; ولو كانت رفعا على الاستئناف، كأنه قال; بلى نحن قادرين على أكثر من ذا، كان صوابا، وقول الناس; بلى نقدر، فلما صرفت إلى قادرين نصبت خطأ؛ لأن الفعل لا ينصب بتحويله من يفعل إلى فاعل ألا ترى أنك تقول; أتقوم إلينا؟، فإن حولتها إلى فاعل، قلت; أقائمًا إلينا؟ وكان خطأ أن تقول; أقام إلينا؟ وقد كانوا يحتجون بقول الفرزدق; " علي قسم ... " البيت فقالوا; إنما أراد; لا أشتم ولا يخرج، فلما صرفها إلى يخرج نصبها وإنما نصب لأنه أراد; عاهدت ربي لا شاتما أحدا، ولا خارجا من في زور كلام. ا هـ .
فرد عليه بقوله: { بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ } أي: أطراف أصابعه وعظامه، المستلزم ذلك لخلق جميع أجزاء البدن، لأنها إذا وجدت الأنامل والبنان، فقد تمت خلقة الجسد، وليس إنكاره لقدرة الله تعالى قصورا بالدليل الدال على ذلك، وإنما [وقع] ذلك منه أن قصده وإرادته أن يكذب بما أمامه من البعث. والفجور: الكذب مع التعمد.
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة