فَإِن كُنتَ فِى شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَسْـَٔلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتٰبَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
فَاِنۡ كُنۡتَ فِىۡ شَكٍّ مِّمَّاۤ اَنۡزَلۡنَاۤ اِلَيۡكَ فَسۡــَٔلِ الَّذِيۡنَ يَقۡرَءُوۡنَ الۡكِتٰبَ مِنۡ قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ الۡحَقُّ مِنۡ رَّبِّكَ فَلَا تَكُوۡنَنَّ مِنَ الۡمُمۡتَرِيۡنَۙ
تفسير ميسر:
فإن كنت -أيها الرسول- في ريب من حقيقة ما أخبرناك به فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك من أهل التوراة والإنجيل، فإن ذلك ثابت في كتبهم، لقد جاءك الحق اليقين من ربك بأنك رسول الله، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، ويجدون صفتك في كتبهم، ولكنهم ينكرون ذلك مع علمهم به، فلا تكوننَّ من الشاكِّين في صحة ذلك وحقيقته.
قال قتادة بن دعامة بلغنا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال "لا أشك ولا أسأل ". وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلي الله عليه وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب كما قال تعالى "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل" الآية. ثم مع هذا العلم الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم.
قوله تعالى فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرينقوله تعالى فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ، أي لست في شك ولكن غيرك شك . قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد ; سمعت الإمامين ثعلبا والمبرد يقولان ; معنى فإن كنت في شك أي قل يا محمد للكافر فإن كنت في شك مما أنزلنا إليكفاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك أي يا عابد الوثن إن كنت في شك من القرآن فاسأل من أسلم من اليهود ، يعني عبد الله بن سلام وأمثاله ; لأن عبدة الأوثان كانوا يقرون لليهود أنهم أعلم منهم من أجل أنهم أصحاب كتاب ; فدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يسألوا من يقرون بأنهم أعلم منهم ، هل يبعث الله برسول من بعد موسى . وقال القتبي ; هذا خطاب لمن كان لا يقطع بتكذيب محمد ولا بتصديقه صلى الله عليه وسلم ، بل كان في شك . وقيل ; المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم لا غيره ، والمعنى ; لو كنت يلحقك الشك فيه فيما أخبرناك به فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشك . وقيل ; الشك ضيق الصدر ; أي إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر ، واسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك يخبروك صبر الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف عاقبة أمرهم . والشك في اللغة أصله الضيق ; يقال ; شك الثوب أي ضمه بخلال حتى يصير كالوعاء . وكذلك السفرة تمد علائقها حتى تنقبض ; فالشك يقبض الصدر ويضمه حتى يضيق . وقال الحسين بن الفضل ; الفاء مع حروف الشرط لا توجب الفعل ولا تثبته ، والدليل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما نزلت هذه الآية ; والله لا أشكثم استأنف الكلام فقال لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أي الشاكين المرتابين .
القول في تأويل قوله تعالى ; فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)قال أبو جعفر; يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم; فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما اخترناك فأنـزلنا إليك ، (34) من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولا إلى خلقه، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبًا ، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك ) ، من أهل التوراة والإنجيل ، كعبد الله بن سلام ونحوه ، من أهل الصدق والإيمان بك منهم ، دون أهل الكذب والكفر بك منهم.* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.*ذكر من قال ذلك;17886- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله; (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال; التوراة والإنجيل، الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به، يقول; فاسألهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم.17887- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله; (فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال; هو عبد الله بن سلام، كان من أهل الكتاب ، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم.17888- حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله; (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) قال; هم أهل الكتاب.17889- حدثت عن الحسين بن الفرج قال; سمعت أبا معاذ يقول; أخبرنا عبيد قال; سمعت الضحاك يقول; (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، يعني أهل التقوى وأهلَ الإيمان من أهل الكتاب، ممن أدرك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.* * *فإن قال قائل; أوكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من خبَرِ الله أنه حقٌّ يقين ، حتى قيل له; (فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ؟قيل; لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم.17890- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله; (فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك) ، فقال; لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل.17891- حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا سويد بن عمرو، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله; (فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال; ما شك وما سأل.17892- حدثني الحارث قال ، حدثنا القاسم بن سلام قال ، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير ، ومنصور، عن الحسن في هذه الآية، قال; لم يشك صلى الله عليه وسلم ولم يسأل.17893- حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله; (فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال; لا أشك ولا أسأل.17894- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة; (فإن كنت في شك مما أنـزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال; بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال; لا أشك ولا أسأل.* * *فإن قال; فما وجه مخرج هذا الكلام ، إذنْ ، إن كان الأمر على ما وصفت؟ قيل; قد بيّنا في غير موضع من كتابنا هذا ، استجازة العرب قول القائل منهم لمملوكه; " إن كنت مملوكي فانته إلى أمري" والعبد المأمور بذلك لا يشكُّ سيدُه القائل له ذلك أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه; " إن كنت ابني فبرَّني" ، وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه، وأنّ ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم، وذكرنا ذلك بشواهده، وأنّ منه قول الله; وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ، [سورة المائدة; 116] ، وقد علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك. (35) وهذا من ذلك، لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكًّا في حقيقة خبر الله وصحته، والله تعالى ذكره بذلك من أمره كان عالمًا، ولكنه جل ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضًا، إذْ كان القرآن بلسانهم نـزل.* * *وأما قوله; (لقد جاءك الحق من ربك) الآية، فهو خبرٌ من الله مبتدأ.يقول تعالى ذكره; أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخبر بأنك لله رسولٌ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحّة ذلك، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم ، (فلا تكونن من الممترين) ، يقول; فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته. (36)* * *ولو قال قائل; إن هذه الآية خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بها بعضُ من لم يكن صحَّت ، بصيرته بنبوته صلى الله عليه وسلم ، ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه، تنبيها له على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه، كما قال جل ثناؤه; يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ، [سورة الأحزاب; 1] ، كان قولا غيرَ مدفوعةٍ صحته.-----------------------الهوامش ;(34) في المطبوعة ; " ما أخبرناك وأنزل إليك " ، وأثبت الصواب من المخطوطة .(35) انظر ما سلف 11 ; 236 ، 237 ، ومعاني القرآن للفراء 1 ; 479 .(36) انظر تفسير " الامتراء " فيما سلف 12 ; 61 ، تعليق ; 2، والمراجع هناك .
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ } هل هو صحيح أم غير صحيح؟. { فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } أي: اسأل أهل الكتب المنصفين، والعلماء الراسخين، فإنهم سيقرون لك بصدق ما أخبرت به، وموافقته لما معهم، فإن قيل: إن كثيرًا من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، بل ربما كان أكثرهم ومعظمهم كذبوا رسول الله وعاندوه، وردوا عليه دعوته. والله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بهم، وجعل شهادتهم حجة لما جاء به، وبرهانًا على صدقه، فكيف يكون ذلك؟ فالجواب عن هذا، من عدة أوجه: منها: أن الشهادة إذا أضيفت إلى طائفة، أو أهل مذهب، أو بلد ونحوهم، فإنها إنما تتناول العدول الصادقين منهم. وأما من عداهم، فلو كانوا أكثر من غيرهم فلا عبرة فيهم، لأن الشهادة مبنية على العدالة والصدق، وقد حصل ذلك بإيمان كثير من أحبارهم الربانيين، كـ \"عبد الله بن سلام\" [وأصحابه وكثير ممن أسلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه، ومن بعده] و \"كعب الأحبار\" وغيرهما. ومنها: أن شهادة أهل الكتاب للرسول صلى الله عليه وسلم مبنية على كتابهم التوراة الذي ينتسبون إليه. فإذا كان موجودًا في التوراة، ما يوافق القرآن ويصدقه، ويشهد له بالصحة، فلو اتفقوا من أولهم لآخرهم على إنكار ذلك، لم يقدح بما جاء به الرسول. ومنها: أن الله تعالى أمر رسوله أن يستشهد بأهل الكتاب على صحة ما جاءه، وأظهر ذلك وأعلنه على رءوس الأشهاد. ومن المعلوم أن كثيرًا منهم من أحرص الناس على إبطال دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فلو كان عندهم ما يرد ما ذكره الله، لأبدوه وأظهروه وبينوه، فلما لم يكن شيء من ذلك، كان عدم رد المعادي، وإقرار المستجيب من أدل الأدلة على صحة هذا القرآن وصدقه. ومنها: أنه ليس أكثر أهل الكتاب، رد دعوة الرسول، بل أكثرهم استجاب لها، وانقاد طوعًا واختيارًا، فإن الرسول بعث وأكثر أهل الأرض المتدينين أهل كتاب . فلم يمكث دينه مدة غير كثيرة، حتى انقاد للإسلام أكثر أهل الشام، ومصر، والعراق، وما جاورها من البلدان التي هي مقر دين أهل الكتاب، ولم يبق إلا أهل الرياسات الذين آثروا رياساتهم على الحق، ومن تبعهم من العوام الجهلة، ومن تدين بدينهم اسمًا لا معنى، كالإفرنج الذين حقيقة أمرهم أنهم دهرية منحلون عن جميع أديان الرسل، وإنما انتسبوا للدين المسيحي، ترويجًا لملكهم، وتمويهًا لباطلهم، كما يعرف ذلك من عرف أحوالهم البينة الظاهرة. وقوله: { لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ } أي: الذي لا شك فيه بوجه من الوجوه ولهذا قال: { مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } كقوله تعالى: { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ }
(الفاء) استئنافيّة
(إن) حرف شرط جازم
(كنت) فعل ماض ناقص مبنيّ على السكون في محلّ جزم فعل الشرط.. و (التاء) اسم كان
(في شكّ) جارّ ومجرور خبر كنت
(من) حرف جرّ
(ما) اسم موصول مبنيّ في محلّ جرّ متعلّق بنعت لشكّ
(أنزلنا) مثل جاوزنا ،
(إلى) حرف جرّ و (الكاف) ضمير في محلّ جرّ متعلّق بـ (أنزلنا) ،
(الفاء) رابطة لجواب الشرط
(اسأل) فعل أمر، والفاعل أنت
(الذين) اسم موصول مبنيّ في محلّ نصب مفعول به
(يقرءون) مثل يختلفون ،
(الكتاب) مفعول به منصوبـ (من قبل) جارّ ومجرور متعلّق بـ (يقرءون) ، و (الكاف) ضمير مضاف إليه
(لقد جاء) مثل بوّأنا مبني على الفتحة ، و (الكاف) ضمير مفعول به
(الحقّ) فاعل مرفوع
(من ربّ) جارّ ومجرور متعلّق بـ (جاء)
(الفاء) رابطة لجواب شرط مقدر
(لا) ناهية جازمة
(تكوننّ) مضارع ناقص مبنيّ على الفتح في محلّ جزم ... و (النون) نون التوكيد، واسمه ضمير مستتر تقديره أنت
(من الممترين) جارّ ومجرور خبرتكوننّ، وعلامة الجرّ الياء.
جملة: «كنت في شكّ....» لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «أنزلنا» لا محلّ لها صلة الموصولـ (ما) .
وجملة: «اسأل ... » في محلّ جزم جواب الشرط مقترنة بالفاء.
وجملة: «يقرءون ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذين) .
وجملة: «جاءك الحقّ ... » لا محلّ لها جواب قسم مقدّر.
وجملة: «لا تكوننّ من الممترين» لا محلّ لها جواب شرط مقدّر أي إذا وعيته فلا تكوننّ....