الرسم العثمانيوَإِنِّى خِفْتُ الْمَوٰلِىَ مِن وَرَآءِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا
الـرسـم الإمـلائـيوَاِنِّىۡ خِفۡتُ الۡمَوَالِىَ مِنۡ وَّرَآءِىۡ وَكَانَتِ امۡرَاَتِىۡ عَاقِرًا فَهَبۡ لِىۡ مِنۡ لَّدُنۡكَ وَلِيًّا ۙ
تفسير ميسر:
وإني خفت أقاربي وعصبتي مِن بعد موتي أن لا يقوموا بدينك حق القيام، ولا يدعوا عبادك إليك، وكانت زوجتي عاقرًا لا تلد، فارزقني مِن عندك ولدًا وارثًا ومعينًا.
"وإني خفت الموالي من ورائي" بتشديد الفاء بمعنى قلت عصباتي من بعدي وعلى القراءة الأولى وجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفا سيئا فسأل الله ولدا يكون نبيا من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحى إليه فأجيب في ذلك لا أنه خشي من وراثتهم له ماله فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدرا من أن يشفق على ماله إلى ما هذا وحده وأن يأنف من وراثة عصباته له ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه "الثانى" أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجارا يأكل من كسب يديه ومثل هذا لا يجمع مالا ولا سيما الأنبياء فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا "الثالث" أنه قد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا نورث ما تركنا صدقة" وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح "نحن معشر الأنبياء لا نورث" وعلى هذا فتعين حمل قوله "فهب لي من لدنك وليا يرثني" على ميراث النبوة ولهذا قال "ويرث من آل يعقوب" كقوله "وورث سليمان داود" أي في النبوة إذ لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة".
وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليافيه سبع مسائل ;الأولى ; قوله تعالى ; وإني خفت الموالي قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي وعلي بن الحسين - رضي الله تعالى عنهما - ويحيى بن يعمر ( خفت ) بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وسكون الياء من الموالي لأنه في موضع رفع ( بخفت ) ومعناه انقطعت بالموت . وقرأ الباقون خفت بكسر الخاء وسكون الفاء وضم التاء ونصب الياء من الموالي لأنه في موضع نصب ب ( خفت ) و الموالي هنا الأقارب وبنو العم والعصبة الذين يلونه في النسب . والعرب تسمي بني العم الموالي . قال الشاعر ;مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناقال ابن عباس ومجاهد وقتادة ; خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة ، فأشفق أن يرثه غير الولد . وقالت طائفة ; إنما كان مواليه مهملين للدين ، فخاف بموته أن يضيع الدين ، فطلب وليا يقوم بالدين بعده ؛ حكى هذا القول الزجاج ، وعليه فلم يسل من يرث ماله ؛ لأن الأنبياء لا تورث . وهذا هو الصحيح من القولين في تأويل الآية ، وأنه - عليه الصلاة والسلام - أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال ؛ لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ; إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة وفي كتاب أبي داود ; إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا [ ص; 8 ] العلم . وسيأتي في هذا مزيد بيان عند قوله ; يرثني .الثانية ; هذا الحديث يدخل في التفسير المسند ؛ لقوله تعالى ; وورث سليمان داود وعبارة عن قول زكريا ; فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب وتخصيص للعموم في ذلك ، وأن سليمان لم يرث من داود مالا خلفه داود بعده ؛ وإنما ورث منه الحكمة والعلم ، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب ؛ هكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض ، وإلا ما روي عن الحسن أنه قال ; يرثني مالا ويرث من آل يعقوب النبوة والحكمة ؛ وكل قول يخالف قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو مدفوع مهجور ؛ قال أبو عمر . قال ابن عطية ; والأكثر من المفسرين على أن زكريا إنما أراد وراثة المال ؛ ويحتمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنا معشر الأنبياء لا نورث ألا يريد به العموم ، بل على أنه غالب أمرهم ؛ فتأمله . والأظهر الأليق بزكريا - عليه السلام - أن يريد وراثة العلم والدين ، فتكون الوراثة مستعارة . ألا ترى أنه لما طلب وليا ولم يخصص ولدا بلغه الله تعالى أمله على أكمل الوجوه . وقال أبو صالح وغيره ; قوله من آل يعقوب يريد العلم والنبوة .الثالثة ; قوله تعالى ; من ورائي قرأ ابن كثير بالمد والهمز وفتح الياء . وعنه أنه قرأ أيضا مقصورا مفتوح الياء مثل عصاي . الباقون بالهمز والمد وسكون الياء . والقراء على قراءة ( خفت ) مثل نمت إلا ما ذكرنا عن عثمان . وهي قراءة شاذة بعيدة جدا ؛ حتى زعم بعض العلماء أنها لا تجوز . قال كيف يقول ; خفت الموالي من بعدي أي من بعد موتي وهو حي ؟ ! . النحاس ; والتأويل لها ألا يعني بقوله ; من ورائي أي من بعد موتي ، ولكن من ورائي في ذلك الوقت ؛ وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنهم خفوا في ذلك الوقت وقلوا ، وقد أخبر الله تعالى بما يدل على الكثرة حين قالوا ; أيهم يكفل مريم . ابن عطية ; من ورائي من بعدي في الزمن ، فهو الوراء على ما تقدم في ( الكهف ) .الرابعة ; قوله تعالى ; وكانت امرأتي عاقرا امرأته هي إيشاع بنت فاقوذا بن قبيل ، [ ص; 9 ] وهي أخت حنة بنت فاقوذا ؛ قاله الطبري . وحنة هي أم مريم حسب ما تقدم في ( آل عمران ) بيانه . وقال القتبي ; امرأة زكريا هي إيشاع بنت عمران ، فعلى هذا القول يكون يحيى ابن خالة عيسى - عليهما السلام - على الحقيقة . وعلى القول الآخر يكون ابن خالة أمه . وفي حديث الإسراء قال - عليه الصلاة والسلام - ; فلقيت ابني الخالة يحيى وعيسى شاهدا للقول الأول . والله أعلم . والعاقر التي لا تلد لكبر سنها ؛ وقد مضى بيانه في ( آل عمران ) . والعاقر من النساء أيضا التي لا تلد من غير كبر . ومنه قوله تعالى ; ويجعل من يشاء عقيما . وكذلك العاقر من الرجال ؛ ومنه قول عامر بن الطفيل ;لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا جبانا فما عذري لدى كل محضرالخامسة ; قوله تعالى ; فهب لي من لدنك وليا سؤال ودعاء . ولم يصرح بولد لما علم من حاله وبعده عنه بسبب المرأة . قال قتادة ; جرى له هذا الأمر وهو ابن بضع وسبعين سنة . مقاتل ; خمس وتسعين سنة ؛ وهو أشبه ؛ فقد كان غلب على ظنه أنه لا يولد له لكبره ؛ ولذلك قال ; وقد بلغت من الكبر عتيا . وقالت طائفة ; بل طلب الولد ، ثم طلب أن تكون الإجابة في أن يعيش حتى يرثه ، تحفظا من أن تقع الإجابة في الولد ولكن يخترم ، ولا يتحصل منه الغرض .السادسة . قال العلماء ; دعاء زكريا - عليه السلام - في الولد إنما كان لإظهار دينه ، وإحياء نبوته ، ومضاعفة لأجره لا للدنيا ، وكان ربه قد عوده الإجابة ، ولذلك قال ; ولم أكن بدعائك رب شقيا ، أي بدعائي إياك . وهذه وسيلة حسنة ؛ أن يتشفع إليه بنعمه ، يستدر فضله بفضله ؛ يروى أن حاتم الجود لقيه رجل فسأله ؛ فقال له حاتم ; من أنت ؟ قال ; أنا الذي أحسنت إليه عام أول ؛ فقال ; مرحبا بمن تشفع إلينا بنا . فإن قيل ; كيف أقدم زكريا على مسألة ما يخرق العادة دون إذن ؟ فالجواب أن ذلك جائز في زمان الأنبياء وفي القرآن ما يكشف عن هذا المعنى ؛ فإنه تعالى قال ; كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب فلما رأى خارق العادة استحكم طمعه في إجابة دعوته ؛ فقال تعالى ; هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الآية .[ ص; 10 ]السابعة ; إن قال قائل ; هذه الآية تدل على جواز الدعاء بالولد ، والله سبحانه وتعالى قد حذرنا من آفات الأموال والأولاد ، ونبه على المفاسد الناشئة من ذلك ؛ فقال ; إنما أموالكم وأولادكم فتنة . وقال ; إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم . فالجواب أن الدعاء بالولد معلوم من الكتاب والسنة حسب ما تقدم في ( آل عمران ) بيانه . ثم إن زكريا - عليه السلام - تحرز فقال ; ذرية طيبة وقال ; واجعله رب رضيا . والولد إذا كان بهذه الصفة نفع أبويه في الدنيا والآخرة ، وخرج من حد العداوة والفتنة إلى حد المسرة والنعمة . وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس خادمه فقال ; اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته فدعا له بالبركة تحرزا مما يؤدي إليه الإكثار من الهلكة . وهكذا فليتضرع العبد إلى مولاه في هداية ولده ، ونجاته في أولاه وأخراه اقتداء بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والفضلاء ؛ وقد تقدم في ( آل عمران ) بيانه .
يقول; وإني خفت بني عمي وعصبتي من ورائي; يقول; من بعدى أن يرثوني، وقيل; عنى بقوله (مِنْ وَرَائِي) من قدّامي ومن بين يديّ ؛ وقد بيَّنت جواز ذلك فيما مضى قبل.وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال; ثني عمي، قال; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله; (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) يعني بالموالي; الكلالة الأولياء أن يرثوه، فوهب الله له يحيى.حدثنا يحيى بن داود الواسطي، قال; ثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله; (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال; العصبة.حدثنا أبو كريب، قال; ثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال; خاف موالي الكلالة.حدثنا مجاهد بن موسى، قال; ثنا يزيد، قال; أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح بنحوه.حدثني يعقوب، قال; ثنا هشيم، قال; أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال; يعني الكلالة.حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث، قال ; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله (خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال; العصبة.حدثنا القاسم، قال; ثنا الحسين، قال; ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.حدثنا الحسن، قال; أخبرنا عبد الرزاق، قال; أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) قال; العصبة.حدثني موسى، قال; ثنا عمرو، قال; ثنا أسباط، عن السديّ(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) والموالي; هنّ العصبة ، والموالي; جمع مولى، والمولى والوليّ في كلام العرب واحد. وقرأت قراء الأمصار (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ) بمعنى; الخوف الذي هو خوف الأمن. وروي عن عثمان بن عفان أنه قرأه ; (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ) بتشديد الفاء وفتح الخاء من الخفة، كأنه وجه تأويل الكلام; وإني ذهبت عصبتي ومن يرثني من بني أعمامي. وإذا قرئ ذلك كذلك كانت الياء من الموالي مسكنة غير متحركة، لأنها تكون في موضع رفع بخفت.وقوله (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) يقول; وكانت زوجتي لا تلد، يقال منه; رجل عاقر، وامرأة عاقر بلفظ واحد، كما قال الشاعر;لَبِئـسَ الفَتـى أنْ كُـنْتُ أعْوَرَ عاقِرً اجبَانـا فَمَـا عُـذْرِي لَدَى كُلّ مَحْضَرِ (1)وقوله (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) يقول; فارزقني من عندك ولدا وارثا ومعينا.------------------------الهوامش;(1) البيت في ديوان عامر بن الطفيل ، طبعة ليدن سنة 1913 . والرواية فيه " فبئس " في مكان ; " لبئس " وفي اللسان ; العاقر التي لا تحمل ، ورجل عاقر ; لا يولد له ، ونساء عقر ، بضم العين وتشديد القاف المفتوحة . وقد استشهد به المؤلف على معنى العاقر ، في سورة آل عمران ( 3 ; 257 ) وأعاده في هذا الموضع ، ومحل الاستشهاد في الموضعين واحد .
{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ْ} أي: وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي، أن لا يقوموا بدينك حق القيام، ولا يدعوا عبادك إليك، وظاهر هذا، أنه لم ير فيهم أحدا فيه لياقة للإمامة في الدين، وهذا فيه شفقة زكريا عليه السلام ونصحه، وأن طلبه للولد، ليس كطلب غيره، قصده مجرد المصلحة الدنيوية، وإنما قصده مصلحة الدين، والخوف من ضياعه، ورأى غيره غير صالح لذلك، وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين، ومعدن الرسالة، ومظنة للخير، فدعا الله أن يرزقه ولدا، يقوم بالدين من بعده، واشتكى أن امرأته عاقر، أي ليست تلد أصلا، وأنه قد بلغ من الكبر عتيا، أي: عمرا يندر معه وجود الشهوة والولد. { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ْ} وهذه الولاية، ولاية الدين، وميراث النبوة والعلم والعمل
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة
- القرآن الكريم - مريم١٩ :٥
Maryam19:5