بَلِ الْإِنسٰنُ عَلٰى نَفْسِهِۦ بَصِيرَةٌ
بَلِ الۡاِنۡسَانُ عَلٰى نَفۡسِهٖ بَصِيۡرَةٌ
تفسير ميسر:
بل الإنسان حجة واضحة على نفسه تلزمه بما فعل أو ترك، ولو جاء بكل معذرة يعتذر بها عن إجرامه، فإنه لا ينفعه ذلك.
"بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره" أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر كما قال تعالى "اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "بل الإنسان على نفسه بصيرة" يقول سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه وقال قتادة شاهد على نفسه وفي رواية قال إذا شئت والله رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه وكان يقال إن في الإنجيل مكتوبا يا أبن آدم تبصر القذاة في عين أخيك وتترك الجذع في عينك لا تبصره؟.
قوله تعالى ; بل الإنسان على نفسه بصيرة قال الأخفش ; جعله هو البصيرة ، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك .وقال ابن عباس ; بصيرة أي شاهد ، وهو شهود جوارحه عليه ; يداه بما بطش بهما ، ورجلاه بما مشى عليهما ، وعيناه بما أبصر بهما . والبصيرة ; الشاهد . وأنشد الفراء ;كأن على ذي العقل عينا بصيرة بمقعده أو منظر هو ناظره يحاذر حتى يحسب الناس كلهممن الخوف لا تخفى عليهم سرائرهودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى ; يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون . وجاء تأنيث البصيرة لأن المراد بالإنسان هاهنا الجوارح ، لأنها شاهدة على نفس الإنسان ; فكأنه قال ; بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة ; قال معناه القتبي وغيره . وناس يقولون ; هذه الهاء في قوله ; بصيرة هي التي يسميها أهل الإعراب هاء المبالغة ، كالهاء في قولهم ; داهية وعلامة وراوية . وهو قول أبي عبيد . وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر ; يدل عليه قوله تعالى ; ولو ألقى معاذيره فيمن جعل المعاذير الستور . وهو قول السدي والضحاك .وقال بعض أهل التفسير ; المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة ; أي شاهد فحذف حرف الجر . ويجوز أن يكون ( بصيرة ) نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره ; بل الإنسان على نفسه عين بصيرة ; وأنشد الفراء ;كأن على ذي العقل عينا بصيرةوقال الحسن في قوله تعالى ; بل الإنسان على نفسه بصيرة يعني ; بصير بعيوب غيره ، جاهل بعيوب نفسه .ولو ألقى معاذيره أي ولو أرخى ستوره . والستر بلغة أهل اليمن ; معذار ; قاله الضحاك وقال الشاعر ;ولكنها ضنت بمنزل ساعة علينا وأطت فوقها بالمعاذرقال الزجاج ; المعاذر ; الستور ، والواحد معذار ; أي وإن أرخى ستره ; يريد أن يخفي عمله ، فنفسه شاهدة عليه . وقيل ; أي ولو اعتذر فقال لم أفعل شيئا ، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه ، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه ، فعليه شاهد يكذب عذره ; قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا [ ص; 92 ] ومقاتل . قال مقاتل ; أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك . نظيره قوله تعالى ; يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم وقوله ; ولا يؤذن لهم فيعتذرون فالمعاذير على هذا ; مأخوذ من العذر ; قال الشاعر ;وإياك والأمر الذي إن توسعت موارده ضاقت عليك المصادرفما حسن أن يعذر المرء نفسه وليس له من سائر الناس عاذرواعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له ; قد عذرتك غير معتذر ، إن المعاذير يشوبها الكذب . وقال ابن عباس ; ولو ألقى معاذيره أي لو تجرد من ثيابه . حكاه الماوردي .قلت ; والأظهر أنه الإدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب ; ومنه قول النابغة ;ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها مشارك النكدوالدليل على هذا قوله تعالى في الكفار والله ربنا ما كنا مشركين وقوله تعالى في المنافقين ; يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم . وفي الصحيح أنه يقول ; " يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك ، وصليت وصمت وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع " الحديث . وقد تقدم في ( حم السجدة ) وغيرها . والمعاذير والمعاذر ; جمع معذرة ; ويقال ; عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا ، والاسم المعذرة والعذرى ; قال الشاعر ; [ الجموح الظفري ]إني حددت ولا عذرى لمحدودوكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة ; قال النابغة ;ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت فإن صاحبها قد تاه في البلدوتضمنت هذه الآية مسائل ;الأولى ; قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى ; بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره ; فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه ; لأنها بشهادة منه عليها ; قال الله سبحانه وتعالى ; يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ولا [ ص; 93 ] خلاف فيه ; لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه ; لأن العاقل لا يكذب على نفسه ، وهي المسألة ;الثانية ; وقد قال سبحانه في كتابه الكريم ; وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ثم قال تعالى ; وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وهو في الآثار كثير ; قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ; اغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها .فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك ; الأمر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون ، فيقول أحدهم ; إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه ، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد ، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه ، يعطى الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده .قال مالك ; وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار ، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه ، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار ، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق ، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه . وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة ، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم ، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه ، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه ، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء .الثالثة ; لا يصح الإقرار إلا من مكلف ، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه ; لأن الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه ، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط ، ومنه جائز . وبيانه في مسائل الفقه . وللعبد حالتان في الإقرار ; إحداهما في ابتدائه ، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم . والثانية في انتهائه ، وذلك مثل إبهام الإقرار ، وله صور كثيرة وأمهاتها ست ;الصورة الأولى ; أن يقول له عندي شيء ، قال الشافعي ; لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه . والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر ، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه .الصورة الثانية ; أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة ; لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له .الصورة الثالثة ; أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب ، فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء ، فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء ، لأن الحكم قد نفذ بإبطاله ، وقال بعض أصحاب الشافعي ; يلزم الخمر والخنزير ، وهو قول باطل .وقال أبو حنيفة ; إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون ، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه [ ص; 94 ] إلا هما . وهذا ضعيف ; فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا .الصورة الرابعة ; إذا قال له ; عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين ، ما لم يجئ من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه .الصورة الخامسة ; أن يقول له ; عندي مال كثير أو عظيم ; فقال الشافعي ; يقبل في الحبة .وقال أبو حنيفة ; لا يقبل إلا في نصاب الزكاة . وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة ، منها نصاب السرقة والزكاة والدية وأقله عندي نصاب السرقة ، لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم . وبه قال أكثر الحنفية .ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد ; إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما . فقيل له ; ومن أين تقول ذلك ؟ قال ; لأن الله تعالى قال ; لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين . وهذا لا يصح ; لأنه أخرج حنينا منها ، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين ، وقد قال الله تعالى ; اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وقال ; لا خير في كثير من نجواهم ، وقال ; والعنهم لعنا كبيرا .الصورة السادسة ; إذا قال له ; عندي عشرة أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه ، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه . وبه قال الشافعي ; وقال أبو حنيفة ; إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا ; كقوله ; مائة وخمسون درهما ; لأن الدرهم تفسير للخمسين ، والخمسون تفسير للمائة . وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي ; الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله; ( بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) فقال بعضهم; معنى ذلك; بما قدّم من عمل خير، أو شرّ أمامه، مما عمله في الدنيا قبل مماته، وما أخَّر بعد مماته من سيئة وحسنة، أو سيئة يعمل بها من بعده.* ذكر من قال ذلك;حدثني علي، قال; ثنا أبو صالح، قال; ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله; ( يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) يقول; ما عمل قبل موته، وما سَنّ فعُمِل به بعد موته.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال; ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد بن أبي مريم عن ابن مسعود قال; ( بِمَا قَدَّمَ ) من عمله ( وأخَّرَ ) من سنة عمل بها من بعده من خير أو شرّ.وقال آخرون; بل معنى ذلك; يُنَبأُ الإنسان بما قدم من المعصية، وأخر من الطاعة.* ذكر من قال ذلك;حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال; ثني عمي، قال; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله; ( يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) يقول; بما قدّم من المعصية، وأخَّر من الطاعة، فينبأ بذلك.وقال آخرون; بل معنى ذلك; ينبأ بأوّل عمله وآخره.* ذكر من قال ذلك;حدثنا ابن بشار، قال; ثنا مؤمل، قال; ثنا سفيان، عن منصور عن مجاهد ( يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) قال; بأول عمله وآخره.حدثنا ابن حميد، قال; ثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد، مثله.حدثنا أبو كُرَيب، قال; ثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.وحدثنا ابن حميد، قال; ثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم، مثله.وقال آخرون; بل معنى ذلك; ( بمَا قَدَّمَ ) من طاعة ( وأخَّرَ ) من حقوق الله التي ضيَّعها.* ذكر من قال ذلك;حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة، قوله; ( يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ ) من طاعة الله ( وأخَّرَ ) مما ضيع من حقّ الله.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال; ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ( بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) قال; بما قَدّم من طاعته، وأخَّر من حقوق الله.وقال آخرون; بل معنى ذلك; بما قدّم من خير أو شرّ مما عمله، وما أخَّر مما ترك عمله من طاعة الله.* ذكر من قال ذلك;حدثني يونس، قال; أخبرنا ابن وهب، قال; قال ابن زيد، في قوله; ( يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ ) قال; ما أخر ما ترك من العمل لم يعمله، ما ترك من طاعة الله لم يعمل به، وما قدم; ما عمل من خير أو شرّ.والصواب من القول في ذلك عندنا، أن ذلك خبر من الله أن الإنسان ينبأ بكلّ ما قدّم أمامه مما عمل من خير أو شرّ في حياته، وأخَّر بعده من سنة حسنة أو سيئة مما قدّم وأخَّر، كذلك ما قدّم من عمل عمله من خير أو شرّ، وأخَّر بعده من عمل كان عليه فضيَّعه، فلم يعمله مما قدّم وأخَّر، ولم يخصص الله من ذلك بعضا دون بعض، فكلّ ذلك مما ينبأ به الإنسان يوم القيامة.
{ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } أي: شاهد ومحاسب،
(بل) للإضرابـ (على نفسه) متعلّق بـ (بصيرة) وهو الخبر و (التاء) للمبالغة ،
(الواو) حالية.
جملة: «الإنسان.. بصيرة» لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «ألقى ... » في محلّ نصب حال من الضمير في بصيرة..
وجواب الشرط محذوف تقديره: ما قبلت منه.