لَا يَزَالُ بُنْيٰنُهُمُ الَّذِى بَنَوْا رِيبَةً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَّآ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
لَا يَزَالُ بُنۡيَانُهُمُ الَّذِىۡ بَنَوۡا رِيۡبَةً فِىۡ قُلُوۡبِهِمۡ اِلَّاۤ اَنۡ تَقَطَّعَ قُلُوۡبُهُمۡؕ وَاللّٰهُ عَلِيۡمٌ حَكِيۡمٌ
تفسير ميسر:
لا يزال بنيان المنافقين الذي بنوه مضارَّة لمسجد (قباء) شكًا ونفاقًا ماكثًا في قلوبهم، إلى أن تتقطع قلوبهم بقتلهم أو موتهم، أو بندمهم غاية الندم، وتوبتهم إلى ربهم، وخوفهم منه غاية الخوف. والله عليم بما عليه هؤلاء المنافقون من الشك وما قصدوا في بنائهم، حكيم في تدبير أمور خلقه.
وقوله تعالى " لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم " أي شكا ونفاقا بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع أورثهم نفاقا في قلوبهم كما أشرب عابدو العجل حبه وقوله " إلا أن تقطع قلوبهم " أي بموتهم. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وزيد بن أسلم والسدي وحبيب بن أبي ثابت والضحاك وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد من علماء السلف " والله عليم " أي بأعمال خلقه " حكيم " في مجازتهم عنها من خير وشر.
قوله تعالى لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله عليم حكيمقوله تعالى لا يزال بنيانهم الذي بنوا يعني مسجد الضرار ريبة في قلوبهم أي شكا في قلوبهم ونفاقا ; قاله ابن عباس وقتادة والضحاك . وقال النابغة ;حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهبوقال الكلبي ; حسرة وندامة ; لأنهم ندموا على بنيانه . وقال السدي وحبيب والمبرد ; ريبة أي حزازة وغيظا .إلا أن تقطع قلوبهم قال ابن عباس ; أي تنصدع قلوبهم فيموتوا ; كقوله ; لقطعنا منه الوتين لأن الحياة تنقطع بانقطاع الوتين ; وقاله قتادة والضحاك ومجاهد . وقال سفيان ; إلا أن يتوبوا . عكرمة ; إلا أن تقطع قلوبهم في قبورهم ، [ ص; 186 ] وكان أصحاب عبد الله بن مسعود يقرءونها ; " ريبة في قلوبهم ولو تقطعت قلوبهم " . وقرأ الحسن ويعقوب وأبو حاتم " إلى أن تقطع " على الغاية ، أي لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا ويتبينوا . واختلف القراء في قوله ( تقطع ) فالجمهور " تقطع " بضم التاء وفتح القاف وشد الطاء على الفعل المجهول . وقرأ ابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب كذلك إلا أنهم فتحوا التاء . وروي عن يعقوب وأبي عبد الرحمن " تقطع " على الفعل المجهول مخفف القاف . وروي عن شبل وابن كثير " تقطع " خفيفة القاف " قلوبهم " نصبا ، أي أنت تفعل ذلك بهم . وقد ذكرنا قراءة أصحاب عبد الله .والله عليم حكيم تقدم .
القول في تأويل قوله ; لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)قال أبو جعفر; يقول تعالى ذكره; لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا =(ريبة)، يقول; لا يزال مسجدهم الذي بنوه =(ريبة في قلوبهم), يعني; شكًّا ونفاقًا في قلوبهم, يحسبون أنهم كانوا في بنائه مُحْسنين (57) =(إلا أن تقطع قلوبهم)، يعني; إلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا =(والله عليم)، بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار، من شكهم في دينهم، وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه، وما إليه صائرٌ أمرهم في الآخرة، وفي الحياة ما عاشوا, وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم =(حكيم)، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه. (58)* * *وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.* ذكر من قال ذلك;17251- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس قوله; (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم)، يعني شكًّا =(إلا أن تقطع قلوبهم)، يعني الموت.17252- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور, عن معمر, عن قتادة; (ريبة في قلوبهم)، قال; شكًّا في قلوبهم =(إلا أن تقطع قلوبهم)، إلا أن يموتوا.17253- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد, عن قتادة قوله; (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم)، يقول; حتى يموتوا.17254- حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا شعبة, عن الحكم, عن مجاهد في قوله; (إلا أن تقطع قلوبهم)، قال; إلا أن يموتوا. (59)17255- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد; (إلا أن تقطع قلوبهم)، قال; يموتوا.17256- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد; (إلا أن تقطع قلوبهم)، قال; يموتوا.17257- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد, مثله.17258-...... قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك, عن معمر, عن قتادة والحسن; (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم)، قالا شكًّا في قلوبهم.17259- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي قال، حدثنا أبو سنان, عن حبيب; (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم)، قال; غيظًا في قلوبهم.17260-...... قال، حدثنا ابن نمير, عن ورقاء, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد; (إلا أن تقطع قلوبهم)، قال; يموتوا.17261-...... قال، حدثنا إسحاق الرازي, عن أبي سنان, عن حبيب; (إلا أن تقطع قلوبهم)، ; إلا أن يموتوا.17262-...... قال، حدثنا قبيصة, عن سفيان, عن السدي; (ريبة في قلوبهم)، قال; كفر. قلت; أكفر مجمّع بن جارية؟ قال; لا ولكنها حَزَازة.17263- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان, عن السدي; (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم)، قال; حزازة في قلوبهم.17264- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله; (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم)، لا يزال ريبة في قلوبهم راضين بما صنعوا, كما حُبِّب العجل في قلوب أصحاب موسى. وقرأ; وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ، [سورة البقرة; 93] قال; حبَّه =(إلا أن تقطع قلوبهم)، قال; لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا = يعني المنافقين.17265- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس, عن السدي, عن إبراهيم; (ريبة في قلوبهم)، قال شكًّا. قال قلت; يا أبا عمران، تقول هذا وقد قرأت القرآن؟ قال; إنما هي حَزَازة.* * *واختلفت القرأة في قراءة قوله; (إلا أن تقطع قلوبهم).فقرأ ذلك بعض قرأة الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة; (إِلا أَنْ تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ)، بضم التاء من " تقطع ", على أنه لم يسمَّ فاعله, وبمعنى; إلا أن يُقَطِّع الله قلوبهم.* * *وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة; ( إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ )، بفتح التاء من " تقطع "، على أن الفعل للقلوب. بمعنى; إلا أن تتقطّع قلوبهم, ثم حذفت إحدى التاءين.* * *وذكر أن الحسن كان يقرأ; " إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ " ، بمعنى; حتى تتقطع قلوبهم. (60)* * *وذكر أنها في قراءة عبد الله; (وَلَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ)، وعلى الاعتبار بذلك قرأ من قرأ ذلك; (إلا أَنْ تُقَطَّع)، بضم التاء.* * *قال أبو جعفر; والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى, لأن القلوب لا تتقطع إذا تقطعت، إلا بتقطيع الله إياها, ولا يقطعها الله إلا وهي متقطعة. وهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.وأما قراءة ذلك; (إلَى أَنْ تَقَطَّعَ), فقراءةٌ لمصاحف المسلمين مخالفةٌ, ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزةً.-------------------------الهوامش ;(57) انظر تفسير " الريبة " فيما سلف ص ; 275 ، تعليق ; 3 ، والمراجع هناك .(58) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة ( علم ) ، ( حكم ) .(59) الأثر ; 17254 - " مطر بن محمد الضبي " ، انظر ما سلف رقم ; 12198 ، 14610 .(60) انظر معاني القرآن للفراء 1 ; 452 .
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} أي: شكا، وريبا ماكثا في قلوبهم، {إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} بأن يندموا غاية الندم ويتوبوا إلى ربهم، ويخافوه غاية الخوف، فبذلك يعفو اللّه عنهم، وإلا فبنيانهم لا يزيدهم إلا ريبا إلى ريبهم، ونفاقا إلى نفاقهم. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بجميع الأشياء، ظاهرها، وباطنها، خفيها وجليها، وبما أسره العباد، وأعلنوه. {حَكِيمٌ} لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد . وفي هذه الآيات فوائد عدة: منها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، وأنه يجب هدم مسجد الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه. ومنها: أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى. ومنها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها. كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها، لأن اللّه علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة للّه ورسوله. ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، والبعد عنها، وعن قربها. ومنها: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، ونهي عن القيام فيه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد \" قباء\" حتى قال اللّه فيه: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} . ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره، حتى كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزور قباء كل سبت يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه. ومنها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع قواعد مهمة، وهي: كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية للّه، فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى اللّه ورسوله، فإنه محرم ممنوع منه، وعكسه بعكسه. ومنها: أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات. ومنها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره اللّه له من باب أولى وأحرى. ومنها: أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم. والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم، واللّه لا يهدي القوم الظالمين.
(لا يزال) مضارع ناقص- ناسخ- مرفوع، و (لا) نافية
(بنيان) اسم الفعل الناقص مرفوع و (هم) ضمير مضاف إليه
(الذي) موصول مبنيّ في محلّ رفع نعت لبنيان
(بنوا) فعل ماض مبنيّ على الضمّ المقدّر على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين.. والواو فاعلـ (ريبة) خبر الناقص منصوب على حذف مضاف أي سبب ريبة
(في قلوب) جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف نعت لريبة و (هم) مثل الأخير
(إلّا) حرف للاستثناء
(أن) حرف مصدريّ ونصبـ (تقطّع) مضارع منصوب- حذف منه إحدى التاءين-
(قلوب) فاعل مرفوع و (هم) مثل الأخير.
والمصدر المؤوّلـ (أن تقطّع..) في محلّ نصب على الاستثناء بحذف مضاف أي إلّا حال تقطّع قلوبهم أو وقت تقطّع قلوبهم .
(والله عليم حكيم) مرّ إعرابها .
جملة: «لا يزال بنيانهم ... » لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «بنوا ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذي) .
وجملة: «تقطّع قلوبهم» لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ
(أن) .
وجملة: «الله عليم ... » لا محلّ لها استئنافيّة.