فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُۥ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ
فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالۡاَرۡضِ اِنَّهٗ لَحَـقٌّ مِّثۡلَ مَاۤ اَنَّكُمۡ تَنۡطِقُوۡنَ
تفسير ميسر:
أقسم الله تعالى بنفسه الكريمة أنَّ ما وعدكم به حق، فلا تَشُكُّوا فيه كما لا تَشُكُّون في نطقكم.
وقوله تعالى "فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون" يقسم تعالى بنفسه الكريمة أن ما وعدهم به من أمر القيامة والبعث والجزاء كائن محالة وهو حق لا مرية فيه فلا تشكو فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه إن هذا لحق كما أنك ههنا قال مسدد عن ابن أبي عدى عن عوف عن الحسن البصري قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا" ورواه ابن جرير عن بندار عن ابن أبي عدي عن عوف عن الحسن فذكره مرسلا.
قوله تعالى ; فورب السماء والأرض إنه لحق أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق ، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله ; مثل ما أنكم تنطقون وخص النطق من بين سائر الحواس ; لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه ، كالذي يرى في المرآة ، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها ، والدوي والطنين في الأذن ، والنطق سالم من ذلك ، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به . وقال بعض الحكماء ; كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره ، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره . وقال الحسن ; بلغني أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ; قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه ، قال الله تعالى ; فورب السماء والأرض إنه لحق . وقال الأصمعي ; أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه ، فدنا وسلم وقال ; ممن الرجل ؟ قلت ; منبني أصمع ، قال ; أنت الأصمعي ؟ قلت ; نعم . قال ; ومن أين أقبلت ؟ قلت ; من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ; قال ; وللرحمن كلام يتلوه الآدميون ؟ قلت ; نعم ; قال ; فاتل علي منه شيئا ; فقرأت والذاريات ذروا إلى قوله ; وفي السماء رزقكم فقال ; يا أصمعي حسبك ! ! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها ، وقال ; أعني على توزيعها ; ففرقناها على من أقبل وأدبر ، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول ; وفي السماء رزقكم وما توعدون فمقت نفسي ولمتها ، ثم حججت مع الرشيد ، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق ، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر ، فسلم علي وأخذ بيدي وقال ; اتل علي كلام الرحمن ، وأجلسني من وراء المقام فقرأت والذاريات ذروا حتى وصلت إلى قوله تعالى ; وفي السماء رزقكم وما توعدون فقال [ ص; 41 ] الأعرابي ; لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا ، وقال ; وهل غير هذا ؟ قلت ; نعم ; يقول الله تبارك وتعالى ; فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون قال ; فصاح الأعرابي وقال ; يا سبحان الله ! من الذي أغضب الجليل حتى حلف ! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين ؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه . وقال يزيد بن مرثد ; إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال ; اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به ; فشبع وروي من غير طعام ولا شراب . وعن أبي سعيد الخدري قال ; قال النبي صلى الله عليه وسلم ; لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت أسنده الثعلبي . وفي سنن ابن ماجه عن حبة وسواء ابني خالد قالا ; دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا فأعناه عليه ، فقال ; لا تيأسا من الرزق ما تهززت رءوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله . وروي أن قوما من الأعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله ، فخرجت عليهم أعرابية فقالت ; ما لي أراكم قد نكستم رءوسكم ، وضاقت صدوركم ، هو ربنا والعالم بنا ، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء ! ثم أنشأت تقول ;لو كان في صخرة في البحر راسية صما ململمة ملس نواحيهارزق لنفس براها الله لانفلقت حتى تؤدي إليها كل ما فيهاأو كان بين طباق السبع مسلكها لسهل الله في المرقى مراقيهاحتى تنال الذي في اللوح خط لها إن لم تنله وإلا سوف يأتيهاقلت ; وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسمع قوله تعالى ; وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فرجع ولم يكلم النبي صلى الله عليه وسلم وقال ; ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب ; وقد ذكرناه في سورة " هود " . وقال لقمان ; يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة الآية . وقد مضى في " لقمان " وقد استوفينا هذا الباب في كتاب ( قمع الحرص بالزهد والقناعة ) والحمد لله . وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شيء ، وهو فراغ القلب مع الرب ; رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه .[ ص; 42 ] قوله تعالى ; مثل ما أنكم تنطقون قراءة العامة " مثل " بالنصب أي كمثل ما أنكم فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و " ما " زائدة ; قاله بعض الكوفيين . وقال الزجاج والفراء ; يجوز أن ينتصب على التوكيد ; أي لحق حقا مثل نطقك ; فكأنه نعت لمصدر محذوف . وقول سيبويه ; إنه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و " ما " زائدة للتوكيد . المازني ; مثل مع ما بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك . واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ; قال ; ولأن من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا ; فتقول ; قال لي رجل مثلك ، ومررت برجل مثلك بنصب مثل على معنى كمثل . وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش " مثل " بالرفع على أنه صفة " لحق " ; لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة ، إذ لا يختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين . و " مثل " مضاف إلى " أنكم " و " ما " زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة المصدر إذ لا فعل معه تكون معه مصدرا . ويجوز أن تكون بدلا من " لحق " .
القول في تأويل قوله تعالى ; فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)يقول تعالى ذكره مقسما لخلقه بنفسه; فوربّ السماء والأرض, إن الذي قلت لكم أيها الناس; إن في السماء رزقكم وما توعدون لحقّ, كما حقّ أنكم تنطقون.وقد حدثنا محمد بن بشار, قال; ثنا ابن أبي عدي, عن عوف, عن الحسن, في قوله ( فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ) قال; بلغني أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم قال; " قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدّقوه " وقال الفرّاء; للجمع بين " ما " و " إنّ" في هذا الموضع وجهان; أحدهما; أن يكون ذلك نظير جمع العرب بين الشيئين من الأسماء والأدوات, كقول الشاعر في الأسماء;مِــنَ النَّفَـرِ اللائِـي الَّـذِينَ إذَا هُـمُيَهـابُ اللِّئـامُ حَلْقَـةَ البـاب قَعْقَعُـوا (5)فجمع بين اللائي والذين, وأحدهما مجزئ من الآخر; وكقول الآخر في الأدوات;مــا إنْ رأيْــتُ وَلا سَــمِعْتُ بِـهِكــالْيَوْمِ طــالِيَ أيْنُــقٍ جُــرْبِ (6)فجمع بين " ما " و بين " إن ", وهما جحدان يجزئ أحدهما من الآخر. وأما الآخر; فهو لو أن ذلك أفرد بما, لكان خبرا عن أنه حقّ لا كذب, وليس ذلك المعنيّ به. وإنما أُريد به; أنه لحقّ كما حقّ أن الآدميّ ناطق. ألا يرى أن قولك; أحق منطقك, معناه; أحقّ هو أم كذب, وأن قولك أحق أنك تنطق معناه للاستثبات لا لغيره, فأدخلت " أن " ليفرّق بها بين المعنيين, قال; فهذا أعجب الوجهين إليّ.واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ ) فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة ( مِثْلَ مَا ) نصبا بمعنى; إنه لحقّ حقا يقينا كأنهم وجهوها إلى مذهب المصدر. وقد يجوز أن يكون نصبها من أجل أن العرب تنصبها إذا رفعت بها الاسم, فتقول; مثل من عبد الله, وعبد الله مثلك, وأنت مثلُه, ومثلَهُ رفعا ونصبا. وقد يجوز أن يكون نصبها على مذهب المصدر, إنه لحقّ كنطقكم. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة, وبعض أهل البصرة رفعا " مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ " على وحه النعت للحقّ.والصواب من القول في ذلك عندي أنهما قراءتان مستفيضتان في قراءة الأمصار, متقاربتا المعنى, فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.-----------------------الهوامش ;(5) هذا البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن ( الورقة 311 ) على أن العرب قد تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما ، مثل اللائي والذين ، فإنهما بمعنى واحد ، وأحدهما يجزئ عن الآخر ، كما في قوله تعالى " إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " فقد جمع بين " ما " و " أن " . وقد نقل المؤلف بقية كلام الفراء في توجيه ذلك الجمع بين اللفظين . واستشهد به النحويون على مثل ما استشهد به الفراء . وانظر تفصيل الكلام على البيت في خزانة الأدب الكبرى للبغدادي ( 2 ; 529 - 534 ) وقد نسب البيت لأبي الربيس الثعلبي . وروايته كما في شعره ( في الخزانة 532 ) ;مـن النفـر البيـض الـذين إذا انتمواوهـاب الرجـال حلقـة الباب فعقعوايمدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وهو صاحب الناقة التي سرقها أبو الربيس ومدح صاحبها وروى الجاحظ في البيان والتبيين أن الأبيات التي منها بيت الشاهد قالها شاعر يمدح بها أسيلم بن الأحنف الأسدي ، قال ; وكان ذا بيان وأدب وعقل وجاه ، وهو الذي يقول فيه الشاعر ... الأبيات . وقال الزبير بن بكار في أنساب قريش ; إن أبا الربيس عباد بن طهفة الثعلبي قال لعبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ... الأبيات وفيها البيت ;مـن النفـر الشـم الـذين إذا ابتـدواوهـاب اللئـام حلقـة البـاب قعقعـوا(6) هذا البيت من كلام دريد بن الصمة فارس جشم ، وكان جاء إلى عمرو بن الشريد السلمي يخطب إليه ابنته الخنساء ، وكانت تهنأ بالقطران إبلا لأبيها ، فلما رآها قال أبياتًا يصفها ، ومنها ;أخُنــاس قَــدْ هــامَ الفُـؤَاد بكُـمْوأصَابَـــهُ تَبْــلٌ مِــنَ الْحــبّفلما أخبرها أبوها بما جاء له فارس جشم ، رغبت عنه ، لكبر سنه ، ورغبت في بني أعمامها .انظر القصة في ترجمة الخنساء في الأغاني لأبي الفرج ) والشاهد في هذا البيت كما قال الفراء في معاني القرآن ; إن العرب قد تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات . إذا اختلف لفظهما ، مثل جمع الشاعر بين " ما " و " إن " في هذا البيت ، للتوكيد . وكما في قوله تعالى ; " إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " . فما مصدريه ، وكذلك إن حرف يؤول ما بعده مصدر ، وكان في أحدهما غنية عن الآخر .
فلما بين الآيات ونبه عليها تنبيهًا، ينتبه به الذكي اللبيب، أقسم تعالى على أن وعده وجزاءه حق، وشبه ذلك، بأظهر الأشياء [لنا] وهو النطق، فقال: { فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ } فكما لا تشكون في نطقكم، فكذلك لا ينبغي الشك في البعث بعد الموت
ورد إعراب هذه الآية في آية سابقة