إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسٰنَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنٰهُ سَمِيعًۢا بَصِيرًا
اِنَّا خَلَقۡنَا الۡاِنۡسَانَ مِنۡ نُّطۡفَةٍ اَمۡشَاجٍۖ نَّبۡتَلِيۡهِ فَجَعَلۡنٰهُ سَمِيۡعًۢا بَصِيۡرًا
تفسير ميسر:
إنا خلقنا الإنسان من نطفة مختلطة من ماء الرجل وماء المرأة، نختبره بالتكاليف الشرعية فيما بعد، فجعلناه من أجل ذلك ذا سمع وذا بصر؛ ليسمع الآيات، ويرى الدلائل، إنا بينَّا له وعرَّفناه طريق الهدى والضلال والخير والشر؛ ليكون إما مؤمنًا شاكرًا، وإما كفورًا جاحدًا.
"أمشاج" أي أخلاط والمشج والمشيج الشيء المختلط بعضه في بعض قال ابن عباس في قوله تعالى "من نطفة أمشاج" يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا ثم ينتقل بعد من طور إلى طور وحال إلى حال ولون إلى لون وهكذا قال عكرمة ومجاهد والحسن والربيع بن أنس الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة وقوله تعالى "نبتليه" أي نختبره كقوله جل جلاله "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" "فجعلناه سميعا بصيرا" أي جعلنا له سمعا وبصرا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية.
قوله تعالى ; إنا خلقنا الإنسان أي ابن آدم من غير خلاف من نطفة أي من ماء يقطر وهو المني ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ; كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه ;مالي أراك تكرهين الجنه هل أنت إلا نطفة في شنهوجمعها ; نطف ونطاف . أمشاج أخلاط . واحدها ; مشج ومشيج ، مثل خدن وخدين ; قال ; رؤبة ;يطرحن كل معجل نشاج لم يكس جلدا في دم أمشاجويقال ; مشجت هذا بهذا أي خلطته ، فهو ممشوج ومشيج ; مثل ; مخلوط وخليط . وقال المبرد ; واحد الأمشاج ; مشيج ; يقال ; مشج يمشج ; إذا خلط ، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم ; قال الشماخ ;طوت أحشاء مرتجة لوقت على مشج سلالته مهينوقال الفراء ; أمشاج ; أخلاط ماء الرجل وماء المرأة ، والدم والعلقة . ويقال للشيء من هذا إذا خلط ; مشيج كقولك خليط ، وممشوج كقولك مخلوط . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال ; الأمشاج ; الحمرة في البياض ، والبياض في الحمرة . وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة ; قال الهذلي ;كأن الريش والفوقين منه خلاف النصل سيط به مشيجوعن ابن عباس أيضا قال ; يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد ، فما كان من عصب وعظم وقوة فهو من ماء الرجل ، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة . وقد روي هذا مرفوعا ; ذكره البزار . وروي عن ابن مسعود ; أمشاجها عروق المضغة . وعنه ; ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان . وقال مجاهد ; نطفة الرجل بيضاء وحمراء ، ونطفة المرأة خضراء وصفراء . وقال ابن عباس ; خلق من ألوان ; خلق من تراب ، ثم من ماء الفرج والرحم ، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم . ونحوه قال [ ص; 109 ] قتادة ; هي أطوار الخلق ; طور علقة وطور مضغة وطور عظام ثم يكسو العظام لحما ; كما قال في سورة ( المؤمنون ) ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين الآية .وقال ابن السكيت ; الأمشاج الأخلاط ; لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة . وقال أهل المعاني ; الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد ; لأنه نعت للنطفة ; كما يقال ; برمة أعشار وثوب أخلاق . وروي عن أبي أيوب الأنصاري قال ; جاء حبر من اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ; أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة ؟ فقال ; ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة آنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت ، فقال الحبر ; أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله . وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة ( البقرة ) .نبتليه أي نختبره . وقيل ; نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار . وفيما يختبر به وجهان ; أحدهما ; نختبره بالخير والشر ; قاله الكلبي . الثاني ; نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء ; قاله الحسن . وقيل ; نبتليه نكلفه . وفيه أيضا وجهان ; أحدهما ; بالعمل بعد الخلق ; قاله مقاتل . الثاني ; بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي . وروي عن ابن عباس ; نبتليه ; نصرفه خلقا بعد خلق ; لنبتليه بالخير والشر . وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال ; المعنى والله أعلم فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه ، وهي مقدمة معناها التأخير .قلت ; لأن الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة وقيل ; جعلناه سميعا بصيرا ; يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى ، وبصرا يبصر به الهدى .
وقوله; ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ )يقول تعالى ذكره; إنا خلقنا ذرّية آدم من نطفة، يعني; من ماء الرجل وماء المرأة، والنطفة; كلّ ماء قليل في وعاء كان ذلك ركية أو قربة، أو غير لك، كما قال عبد الله بن رواحة;هَلْ أنْتِ إلا نُطْفَةٌ في شَنَّه (2)وقوله; ( أمْشاجٍ ) يعني; أخلاط، واحدها; مشج ومشيج، مثل خدن وخدين؛ ومنه قول رؤبة بن العجاج;يَطْرَحْــنَ كُــلَّ مُعْجَــلٍ نَشَّـاجلَــمْ يُكْـسَ جِـلْدًا فـي دَمٍ أمْشـاجِ (3)&; 24-89 &;يقال منه; مشجت هذا بهذا; إذا خلطته به، وهو ممشوج به ومشيج; أي مخلوط به، كما قال أبو ذؤيب;كــأنَّ الــرّيشَ والفُــوقَيْن مِنْـهخِــلالَ النَّصْـل سِـيطَ بِـهِ مَشِـيجُ (4)واختلف أهل التأويل في معنى الأمشاج الذي عني بها في هذا الموضع، فقال بعضهم; هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.* ذكر من قال ذلك;حدثنا أبو كُريب وأبو هشام الرفاعي قالا ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن عكرِمة ( أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ) قال; ماء الرجل وماء المرأة يمشج أحدهما بالآخر.حدثنا أبو هشام، قال; ثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن عكرِمة قال; ماء الرجل وماء المرأة يختلطان.قال; ثنا أبو أسامة، قال; ثنا زكريا، عن عطية، عن ابن عباس، قال; ماء المرأة وماء الرجل يمشجان.قال; ثنا عبيد الله، قال; أخبرنا إسرائيل، عن السديّ، عمن حدّثه، عن ابن عباس، قال; ماء المرأة وماء الرجل يختلطان.قال; ثنا عبد الله، قال; أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس، قال; إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فهو أمشاج.قال; ثنا أبو أُسامة، قال; ثنا المبارك، عن الحسن، قال; مُشج ماء المرأة مع ماء الرجل.&; 24-90 &;قال; ثنا عبيد الله، قال; أخبرنا عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال; خلق الله الولد من ماء الرجل وماء المرأة، وقد قال الله; يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى .قال; ثنا عبيد الله، قال; أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، قال; خلق من تارات ماء الرجل وماء المرأة.وقال آخرون; إنما عُني بذلك; إنا خلقنا الإنسان من نطفة ألوان ينتقل إليها، يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم كسي لحما.* ذكر من قال ذلك;حدثني محمد بن سعد، قال; ثني أبي، قال; ثني عمي، قال; ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله; ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ) الأمشاج; خلق من ألوان، خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي النطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما، ثم أنشأه خلقا آخر فهو ذلك.حدثنا ابن المثنى، قال; ثنا محمد بن جعفر، قال; ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرِمة، في هذه الآية ( أمْشاجٍ ) قال; نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظما.حدثنا الرفاعي، قال; ثنا وهب بن جرير ويعقوب الحضْرَميّ، عن شعبة، عن سماك، عن عكرِمة، قال; نطفة، ثم علقة.حدثنا بشر، قال; ثنا يزيد، قال; ثنا سعيد، عن قتادة، قوله; ( إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) أطوار الخلق، طورا نطفة، وطورا علقة، وطورا مضغة، وطورا عظاما، ثم كسى الله العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر، أنبت له الشعر.حدثنا ابن عبد الأعلى، قال; ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله; ( أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ) قال; الأمشاج; اختلط الماء والدم، ثم كان علقة، ثم كان مضغة.وقال آخرون; عُني بذلك اختلاف ألوان النطفة.* ذكر من قال ذلك;حدثني عليّ قال; ثنا أبو صالح، قال; ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله; ( أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ) يقول; مختلفة الألوان.حدثنا أبو هشام، قال; ثنا يحيى بن يمان، قال; ثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال; ألوان النطفة.&; 24-91 &;حدثني محمد بن عمرو، قال; ثنا أبو عاصم، قال; ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال; ثنا الحسن، قال; ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال; أيّ الماءين سبق أشبه عليه أعمامه وأخواله.قال; ثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ( أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ ) قال; ألوان النطفة؛ نطفة الرجل بيضاء وحمراء، ونطفة المرأة حمراء وخضراء.حدثنا ابن حميد، قال; ثنا مهران، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.وقال آخرون; بل هي العروق التي تكون في النطفة.* ذكر من قال ذلك;حدثنا أبو كُريب وأبو هشام، قالا ثنا وكيع، قال; ثنا المسعودي، عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه، عن عبد الله، قال; أمشاجها; عروقها.حدثنا أبو هشام، قال; ثنا يحيى بن يمان، قال; ثنا أُسامة بن زيد، عن أبيه، قال; هي العروق التي تكون في النطفة.وأشبه هذه الأقوال بالصواب قول من قال; معنى ذلك ( مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ) نطفة الرجل ونطفة المرأة، لأن الله وصف النطفة بأنها أمشاج، وهي إذا انتقلت فصارت علقة، فقد استحالت عن معنى النطفة فكيف تكون نطفة أمشاجا وهي علقة؟ وأما الذين قالوا; إن نطفة الرجل بيضاء وحمراء، فإن المعروف من نطفة الرجل أنها سحراء على لون واحد، وهي بيضاء تضرب إلى الحمرة، وإذا كانت لونا واحدا لم تكن ألوانا مختلفة، وأحسب أن الذين قالوا; هي العروق التي في النطفة قصدوا هذا المعنى.وقد حدثنا ابن حميد، قال; ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال; إنما خلق الإنسان من الشيء القليل من النطفة. ألا ترى أن الولد إذا أسكت ترى له مثل الرّير؟ وإنما خلق ابن آدم من مثل ذلك من النطفة أمشاج نبتليه.وقوله; ( نَبْتَلِيهِ ) نختبره. وكان بعض أهل العربية يقول; المعنى; جعلناه سميعًا بصيرا لنبتليه، فهي مقدّمة معناها التأخير، إنما المعنى خلقناه وجعلناه سميعًا بصيرا لنبتليه، ولا وجه عندي لما قال يصحّ، وذلك أن الابتلاء إنما هو بصحة الآلات وسلامة العقل من الآفات، وإن عدم السمع والبصر، وأما إخباره إيانا أنه جعل لنا أسماعا وأبصارا &; 24-92 &; في هذه الآية، فتذكير منه لنا بنعمه، وتنبيه على موضع الشكر؛ فأما الابتلاء فبالخلق مع صحة الفطرة، وسلامة العقل من الآفة، كما قال; وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ .وقوله; ( فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ) يقول تعالى ذكره; فجعلناه ذا سمع يسمع به، وذا بصر يبصر به، إنعاما من الله على عباده بذلك، ورأفة منه لهم، وحجة له عليهم.
ثم لما أراد الله تعالى خلقه، خلق [أباه] آدم من طين، ثم جعل نسله متسلسلا { مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } أي: ماء مهين مستقذر { نَبْتَلِيهِ } بذلك لنعلم هل يرى حاله الأولى ويتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه؟فأنشأه الله، وخلق له القوى الباطنة والظاهرة، كالسمع والبصر، وسائر الأعضاء، فأتمها له وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده.
(من نطفة) متعلّق بـ (خلقنا) ،
(أمشاج) نعت لـ (نطفة) مجرور
(الفاء) عاطفة
(سميعا) حال منصوبة من المفعول بتضمين الفعل معنى خلقناه
(بصيرا) حال ثانية منصوبة..
جملة: «إنّا خلقنا ... » لا محلّ لها استئناف بيانيّ.
وجملة: «خلقنا ... » في محلّ رفع خبر إنّ.
وجملة: «نبتليه ... » في محلّ نصب حال من فاعل خلقنا أو من المفعول .
وجملة: «جعلناه ... » في محلّ رفع معطوفة على جملة خلقنا..