وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوٓا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ
وَلَا يَحۡسَبَنَّ الَّذِيۡنَ كَفَرُوۡا سَبَقُوۡا ؕ اِنَّهُمۡ لَا يُعۡجِزُوۡنَ
تفسير ميسر:
ولا يظنن الذين جحدوا آيات الله أنهم فاتوا ونجَوْا، وأن الله لا يقدر عليهم، إنهم لن يُفْلِتوا من عذاب الله.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم "ولا تحسبن" يا محمد "الذين كفروا سبقوا" أي فاتونا فلا نقدر عليهم بل هم تحت قهر قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا كقوله تعالى "أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون" أي يظنون. وقوله "ولا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير" وقوله تعالى "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد" ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة.
قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون قوله تعالى ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا أي من أفلت من وقعة بدر سبق إلى الحياة . ثم استأنف فقال ; إنهم لا يعجزون أي في الدنيا حتى يظفرك الله بهم . وقيل ; يعني في الآخرة . وهو قول الحسن . وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة يحسبن بالياء والباقون بالتاء ، على أن يكون في الفعل ضمير الفاعل . و الذين كفروا مفعول أول . و سبقوا مفعول ثان . وأما قراءة الياء فزعم جماعة من النحويين منهم أبو حاتم أن هذا لحن لا تحل القراءة به ، ولا تسمع لمن عرف الإعراب أو عرفه . قال أبو حاتم ; لأنه لم يأت ل يحسبن بمفعول وهو يحتاج إلى مفعولين . قال النحاس ; وهذا تحامل شديد ، والقراءة تجوز ويكون المعنى ; ولا يحسبن من خلفهم الذين كفروا سبقوا ، فيكون الضمير يعود على ما تقدم ، إلا أن القراءة بالتاء أبين . المهدوي ; ومن قرأ بالياء احتمل أن يكون في الفعل ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ، ويكون الذين كفروا سبقوا المفعولين . ويجوز أن يكون الذين كفروا فاعلا ، والمفعول الأول محذوف ، المعنى ; ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا . مكي ; ويجوز أن يضمر مع [ ص; 392 ] " سبقوا " " أن " فيسد مسد المفعولين والتقدير ; ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا ، فهو مثل أحسب الناس أن يتركوا في سد " أن " مسد المفعولين . وقرأ ابن عامر ( أنهم لا يعجزون ) بفتح الهمزة . واستبعد هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد . قال أبو عبيد ; وإنما يجوز على أن يكون المعنى ; ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون . قال النحاس ; الذي ذكره أبو عبيد لا يجوز عند النحويين البصريين ، لا يجوز حسبت زيدا أنه خارج ، إلا بكسر الألف ، وإنما لم يجز لأنه في موضع المبتدأ ، كما تقول ; حسبت زيدا أبوه خارج ، ولو فتحت لصار المعنى حسبت زيدا خروجه . وهذا محال ، وفيه أيضا من البعد أنه لا وجه لما قاله يصح به معنى ، إلا أن يجعل ( لا ) زائدة ، ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله عز وجل إلى التطول بغير حجة يجب التسليم لها . والقراءة جيدة على أن يكون المعنى ; لأنهم لا يعجزون . مكي ; فالمعنى لا يحسبن الكفار أنفسهم فاتوا لأنهم لا يعجزون ، أي لا يفوتون . ف " أن " في موضع نصب بحذف اللام ، أو في موضع خفض على إعمال اللام لكثرة حذفها مع " أن " وهو يروى عن الخليل والكسائي . وقرأ الباقون بكسر " إن " على الاستئناف والقطع مما قبله ، وهو الاختيار ، لما فيه من معنى التأكيد ، ولأن الجماعة عليه . وروي عن ابن محيصن أنه قرأ ( لا يعجزون ) بالتشديد وكسر النون . النحاس ; وهذا خطأ من وجهين ; أحدهما أن معنى عجزه ضعفه وضعف أمره . والآخر - أنه كان يجب أن يكون بنونين . ومعنى أعجزه سبقه وفاته حتى لم يقدر عليه .
القول في تأويل قوله ; وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)قال أبو جعفر; اختلفت القرأة في قراءة ذلك.فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق; " وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ " بكسر الألف من " إنهم "، وبالتاء في " تحسبن " =بمعنى; ولا تحسبن، يا محمد، الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم. ثم ابتدئ الخبر عن قدرة الله عليهم فقيل; إن هؤلاء الكفرة لا يعجزون ربهم، إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم، بأنفسهم فيفوتوه بها.* * *وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة; ( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )، بالياء في " يحسبن ", وكسر الألف من (إِنَّهُمْ) .* * *وهي قراءة غير حميدة، لمعنيين، (26) أحدهما خروجها من قراءة القرأة وشذوذها عنها =والآخر; بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك أن " يحسب " يطلب في كلام العرب منصوبًا وخبره, كقوله; " عبد الله يحسب أخاك قائمًا " و " يقوم " و " قام ". فقارئ هذه القراءة أصحب " يحسب " خبرًا لغير مخبر عنه مذكور. وإنما كان مراده، ظنّي; (27) ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزوننا =فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسُقمه, واستعمل في قراءته ذلك كذلك، ما ظهر له من مفهوم الكلام. وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك، الاعتبارُ بقراءة عبد الله. وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله; " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ "، وهذا فصيح صحيح، إذا أدخلت " أنهم " في الكلام, لأن " يحسبن " عاملة في " أنهم ", وإذا لم يكن في الكلام " أنهم " كانت خالية من اسم تعمل فيه.وللذي قرأ من ذلك من القرأة وجهان في كلام العرب، وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم;أحدهما; أن يكون أريد به; ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا, أو; أنهم سبقوا =ثم حذف " أن " و " أنهم ", كما قال جل ثناؤه; وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ، [الروم; 24]. بمعنى; أن يريكم، وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة;أَظُـنّ ابْـنُ طُرْثُـوثٍ عُتَيْبَـةُ ذَاهِبًـابِعَـــادِيَّتِي تَكْذَابُـــهُ وَجَعَائِلُــهْ (28)بمعنى; أظن ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي تكذابه وجعائله؟ وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء, يوجه " سبقوا " إلى " سابقين " على هذا المعنى. (29)والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب بـ " يحسب ", كأنه قال; ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا =ثم حذف " أنهم " وأضمر. (30)وقد وجه بعضهم معنى قوله; إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ ، [سورة آل عمران; 175]; إنما ذلكم الشيطان يخوف المؤمن من أوليائه, وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله; " يخوف ", إذ كان الشيطان عنده لا يخوف أولياءه. (31)* * *وقرأ ذلك بعض أهل الشأم; " وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا " بالتاء من " تحسبن " =( سَبَقُوا أَنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)، بفتح الألف من " أنهم ", بمعنى; ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون.* * *قال أبو جعفر; ولا وجه لهذه القراءة يُعقل، إلا أن يكون أراد القارئ بـ " لا " التي في " يعجزون "، " لا " التي تدخل في الكلام حشوًا وصلة، (32) فيكون معنى الكلام حينئذ; ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون =ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل، (33) بغير حجة يجب التسليم لها، وله في الصحة مخرج.* * *قال أبو جعفر; والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ; (لا تَحْسَبَنَّ)، بالتاء ( الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ )، بكسر الألف من " إنهم "، ( لا يُعْجِزُونَ)، بمعنى; ولا تحسبن أنت، يا محمد، الذين جحدوا حجج الله وكذبوا بها، سبقونا بأنفسهم ففاتونا, إنهم لا يعجزوننا =أي; يفوتوننا بأنفسهم, ولا يقدرون على الهرب منا، (34) كما;-16223- حدثني محمد بن الحسين قال; حدثنا أحمد بن المفضل قال; حدثنا أسباط, عن السدي; (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون)، يقول; لا يفوتون.-----------------الهوامش ;(26) هذه القراءة التي ردها أبو جعفر ، هي قراءتنا اليوم .(27) في المطبوعة ; " وإنما كان مراد بطي ولا يحسبن " ، فأتى بعجب لا معنى له . وقول الطبري ; " ظني " ، يقول كما نقول اليوم ; " فيما أظن " .(28) ديوانه 473 ، من قصيدة ذكر فيها " المهاجر بن عبد الله الكلابي " والي اليمامة ، وكان للمهاجر عريف من السعاة بالبادية يقال له ; " رومي " ، فاختلف ذو الرمة ، وعتيبة بن طرثوث في بئر عادية ، فخاصم ذو الرمة إلى رومي ، فقضى رومي لابن طرثوث قبل فصل الخصومة ، وكتب له بذلك سجلا ، فقال ذو الرمة من قصيدته تلك ، برواية ديوانه ;أقُـولُ لِنَفْسِـي , لا أُعَـاتِبُ غَيْرَهَـاوَذُو اللُّـبِّ مَهْمَـا كَـانَ , لِلنَّفْسِ قائِلُهْلَعَـلَّ ابْـنَ طُرْثُـوثٍ عَتَيْبَـةُ ذَاهِـبٌبِعَـــادِيَّتِي تَكْذَابُـــهُ وَجَعَائِلُــهْبِقَــاعٍ , مَنَعْنَــاهُ ثَمَــانينَ حِجَّـةًوَبِضْعًــا , لَنَـا أَحْرَاجُـه وَمَسَـايِلُهْثم ذكر المهاجر بالذكر الجميل ، ثم قال ;يَعِـزُّ , ابْـنَ عَبْدِ اللهِ , مَنْ أَنْتَ نَاصِرٌوَلا يَنْصُـرُ الرَّحْـمَنُ مَـنْ أنْتَ خَاذِلُهْإذَا خَـافَ قَلْبِـي جَـوْرَ سَـاعٍ وَظُلْمَهُذَكَــرْتُكَ أُخْـرَى فَاطْمَـأَنَّتْ بَلابِلُـهْتَـرَى اللـهَ لا تَخْـفَى عَلَيْهِ سَـرِيرَةٌلِعَبْــدٍ , ولا أَسْـبَابُ أَمْـرٍ يُحَاوِلـهْلَقَــدْ خَــطَّ رُومِـيٌّ, وَلا زَعَمَاتِـهِ,لِعُتْبَــةَ خَطًّـا لَـمْ تُطَبَّـقْ مَفَاصِلُـهْبِغَـيْرِ كتـابٍ وَاضِـحٍ مِـنْ مُهَـاجِرٍوَلا مُقْعَــدٍ مِنِّــي بخَـصْمٍ أُجَادِلـهْهذه قصة حية . وكان في المطبوعة ; " عيينة " ، والصواب من الديوان ، ومما يدل عليه الشعر السالف إذ سماه " عتبة " ، ثم صغره . و " العادية " ، البئر القديمة ، كأنها من زمن " عاد " . و " التكذاب " ، مصدر مثل " الكذب " . و " الجعائل " ، الرشي ، تجعل للعامل المرتشي .(29) انظر هذا في معاني القرآن للفراء 1 ; 414 - 416 .(30) كان في المطبوعة ; " ثم حذف الهمز وأضمر " ، وهو كلام لا تفلته الخساسة . وصواب قراءة المخطوطة ; " أنهم " كما أثبتها ، وهو واضح جدًا .(31) انظر ما سلف 7 ; 417 ، تفسير هذه الآية .(32) " الصلة " ، الزيادة ، كما سلف مرارًا ، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف .(33) " التطويل " ، الزيادة أيضًا . انظر ما سلف 1 ; 118 ، 224 ، 405 ، 406 ، 440 ، 441 ، وهو هناك " التطول " .(34) انظر تفسير " أعجز " فيما سلف 12 ; 128 .
أي: لا يحسب الكافرون بربهم المكذبون بآياته، أنهم سبقوا اللّه وفاتوه، فإنهم لا يعجزونه، واللّه لهم بالمرصاد. وله تعالى الحكمة البالغة في إمهالهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة، التي من جملتها ابتلاء عباده المؤمنين وامتحانهم، وتزودهم من طاعته ومراضيه، ما يصلون به المنازل العالية، واتصافهم بأخلاق وصفات لم يكونوا بغيره بالغيها،
(الواو) استئنافيّة
(لا) ناهية جازمة
(تحسبنّ) مضارع مبنيّ على الفتح في محلّ جزم و (النون) للتوكيد
(الذين) اسم موصول مبنيّ في محلّ رفع فاعل ، والمفعول الأول محذوف تقديره أنفسهم
(كفروا) فعل ماض وفاعله
(سبقوا) مثل كفروا
(إنّ) حرف توكيد ونصب و (هم) ضمير في محلّ نصب اسم إنّ
(لا) نافية
(يعجزون) مضارع مرفوع..
والواو فاعل.
وجملة: «لا تحسبنّ الذين ... » لا محلّ لها استئنافيّة.
وجملة: «كفروا ... » لا محلّ لها صلة الموصولـ (الذين) .
وجملة: «إنّهم لا يعجزون» لا محلّ لها تعليليّة- أو استئناف بيانيّ- وجملة: «لا يعجزون» في محلّ رفع خبر إنّ.