الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ
اَلۡحَـقُّ مِنۡ رَّبِّكَ فَلَا تَكُوۡنَنَّ مِنَ الۡمُمۡتَرِيۡنَ
تفسير ميسر:
الذي أنزل إليك -أيها النبي- هو الحق من ربك، فلا تكونن من الشاكين فيه. وهذا وإن كان خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم فهو موجه للأمة.
ثبت تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فقال الحق من ربك فلا تكونن من الممترين.
قوله تعالى ; الحق من ربك فلا تكونن من الممترينقوله تعالى ; الحق من ربك يعني استقبال الكعبة ، لا ما أخبرك به اليهود من قبلتهم . وروي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ الحق منصوبا ب يعلمون أي يعلمون الحق . ويصح نصبه على تقدير الزم الحق . والرفع على الابتداء أو على إضمار مبتدإ والتقدير هو الحق ، أو على إضمار فعل ، أي جاءك الحق . قال النحاس ; فأما الذي في " الأنبياء " الحق فهم معرضون فلا نعلم أحدا قرأه إلا منصوبا ، والفرق بينهما أن الذي في سورة " البقرة " مبتدأ آية ، والذي في الأنبياء ليس كذلكقوله تعالى ; فلا تكونن من الممترين أي من الشاكين . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد [ ص; 153 ] أمته . يقال ; امترى فلان [ في ] كذا إذا اعترضه اليقين مرة والشك أخرى فدافع إحداهما بالأخرى ، ومنه المراء لأن كل واحد منهما يشك في قول صاحبه . والامتراء في الشيء الشك فيه ، وكذا التماري . وأنشد الطبري شاهدا على أن الممترين الشاكون قول الأعشى ;تدر على أسؤق الممتري ن ركضا إذا ما السراب أرجحنقال ابن عطية ; ووهم في هذا ; لأن أبا عبيدة وغيره قال ; الممترون في البيت هم الذين يمرون الخيل بأرجلهم همزا لتجري كأنهم يحتلبون الجري منها ، وليس في البيت معنى الشك كما قال الطبري .قلت ; معنى الشك فيه موجود ; لأنه يحتمل أن يختبر الفرس صاحبه هل هو على ما عهد منه الجري أم لا ، لئلا يكون أصابه شيء ، أو يكون هذا عند أول شرائه فيجريه ليعلم مقدار جريه . قال الجوهري ; ومريت الفرس إذا استخرجت ما عنده من الجري بسوط أو غيره . والاسم المرية ( بالكسر ) وقد تضم . ومريت الناقة مريا ; إذا مسحت ضرعها لتدر . وأمرت هي إذا در لبنها ، والاسم المرية ( بالكسر ) ، والضم غلط . والمرية ; الشك ، وقد تضم ، وقرئ بهما .
القول في تأويل قوله تعالى ; الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)قال أبو جعفر; يقول تعالى ذكره (3) اعلم يا محمد أنّ الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده, لا ما يقول لكَ اليهود والنصارى.وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه السلام; (4) عن أن القبلة التي وجهه نحوها، هي القبلةُ الحقُّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومَنْ بعده من أنبياء الله عز وجل.يقول تعالى ذكره له; فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربِّك يا محمد، ولا تَكوننَّ من الممترين.* * *يعني بقوله; " فلا تكونن من الممترين "، أي; فلا تكونن من الشاكِّين في أن القبلة التي وجَّهتك نَحوها قبلةُ إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره، كما;2272- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر, عن أبيه, عن الربيع قال; قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام; " الحقُّ من ربك فلا تكونن من الممترين "، يقول; لا تكنْ في شك، فإنها قبلتُك وقبلةُ الأنبياء من قبلك. (5)2273- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد; " فلا تكونن من الممترين " قال، من الشاكين قال، لا تشكنّ في ذلك.* * *قال أبو جعفر; وإنما " الممتري" (6) " مفتعل "، من " المرْية ", و " المِرْية " هي الشك, ومنه قول الأعشى;تَــدِرُّ عَــلَى أَسْــوُقِ المُمْـتَرِينَرَكْضًـا, إِذَا مَـا السَّـرَابُ ارْجَحَـــنّ (7)* * *ءقال أبو جعفر; فإن قال لنا قائل; أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم شَاكَّا في أنّ الحق من رَبه, أو في أن القبلة التي وجَّهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره، حتى نُهي عن الشك في ذلك، فقيل له; " فلا تكونن من الممترين "؟قيل; ذلك من الكلام الذي تُخرجه العرب مخُرَج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره, كما قال جل ثناؤه; يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [سورة الأحزاب; 1]، ثم قال; وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [سورة الأحزاب; 2]. فخرج الكلام مخرج الأمرِ للنبي صلى الله عليه وسلم والنهيِ له, والمراد به أصحابه المؤمنون به. وقد بينا نظيرَ ذلك فيما مضى قبل بما أغنَى عن إعادته. (8)-------------------الهوامش ;(3) في المطبوعة ; "يقول الله جل ثناؤه" ، وأثبت نص المخطوطة .(4) في المطبوعة"وهذا من الله تعالى ذكره خبر" ، وأثبت ما في المخطوطة .(5) في المطبوعة ; "فلا تكن في شك أنها" ، بإسقاط الفاء من"فإنها" .(6) في المطبوعة ; "والممتري" ، وأثبت ما في المخطوطة .(7) ديوانه ; 20 واللسان (رجحن) من قصيدة سلف بيت منها في 1 ; 345 ، 346 ، يصف خيلا مغاوير لقيس بن معديكرب الكندي ، أغارت على قوم مسرعة حثيثة ، فبينا القوم يتمارون فيها إذا بها ; -تُبَـــارِي الزِّجَـــاجَ مَغَاوِيرُهَــاشَــمَاطِيط فــي رَهَــجٍ كـالدَّخَنْتَـــدِرُّ عَـــلَى أســـوُق . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . .در الفرس يدر دريرًا ودرة ; عدا عدوًا شديدًا . لا يثنيه شيء . والأسوق جمع ساق ، ويجمع أيضًا على سوق وسيقان . يقول ; بيناهم يتمارون إذ غشيتهم الخيل فصرعتهم ، فوطئتهم وطئًا شديدًا ، ومرت على سيقانهم عدوًا . وارجحن السراب ; ارتفع واتسع واهتز ، وذلك في وقت ارتفاع الشمس .(8) انظر ما سلف 2 ; 484- 488 .
{ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أي: هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل شيء, لما اشتمل عليه من المطالب العالية, والأوامر الحسنة, وتزكية النفوس وحثها على تحصيل مصالحها, ودفع مفاسدها, لصدوره من ربك, الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول والنفوس, وجميع المصالح. { فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } أي: فلا يحصل لك أدنى شك وريبة فيه، بل تفكَّر فيه وتأمل, حتى تصل بذلك إلى اليقين, لأن التفكر فيه لا محالة, دافع للشك, موصل لليقين.
(الحقّ) مبتدأ مرفوع ،
(من ربّ) جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف خبر و (الكاف) ضمير مضاف إليه
(الفاء) رابطة لجواب شرط مقدّر
(لا) ناهية جازمة
(تكوننّ) مضارع مبنيّ على الفتح في محلّ جزم.. و (النون) نون التوكيد، واسمه ضمير مستتر تقديره أنت
(من الممترين) جارّ ومجرور متعلّق بمحذوف خبر الناقص وعلامة الجرّ الياءجملة: «الحقّ من ربّك» لا محلّ لها استئنافيّةوجملة: «لا تكوننّ من الممترين» جواب شرط مقدّر