فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَـًٔا وَءَاتَتْ كُلَّ وٰحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُۥٓ أَكْبَرْنَهُۥ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حٰشَ لِلَّهِ مَا هٰذَا بَشَرًا إِنْ هٰذَآ إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ
فلما سمعت امرأة العزيز بغِيْبتهن إياها واحتيالهن في ذمِّها، أرسلت إليهن تدعوهن لزيارتها، وهيَّأت لهن ما يتكئن عليه من الوسائد، وما يأكلنه من الطعام، وأعطت كل واحدة منهن سكينًا ليُقَطِّعن الطعام، ثم قالت ليوسف; اخرج عليهن، فلما رأينه أعظمنه وأجللنه، وأخَذَهن حسنه وجماله، فجرحن أيديهن وهن يُقَطِّعن الطعام من فرط الدهشة والذهول، وقلن متعجبات; معاذ الله، ما هذا من جنس البشر؛ لأن جماله غير معهود في البشر، ما هو إلا مَلَك كريم من الملائكة.
قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رٰوَدتُّهُۥ عَن نَّفْسِهِۦ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ ءَامُرُهُۥ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصّٰغِرِينَ
قالت امرأة العزيز للنسوة اللاتي قطَّعن أيديهن; فهذا الذي أصابكن في رؤيتكن إياه ما أصابكن هو الفتى الذي لُمتُنَّني في الافتتان به، ولقد طلبته وحاولت إغراءه؛ ليستجيب لي فامتنع وأبى، ولئن لم يفعل ما آمره به مستقبلا لَيعاقَبَنَّ بدخول السجن، ولَيكونن من الأذلاء.
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِىٓ إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجٰهِلِينَ
قال يوسف مستعيذًا مِن شرهن ومكرهن; يا ربِّ السجنُ أحب إليَّ مما يدعونني إليه من عمل الفاحشة، وإن لم تدفع عني مكرهن أَمِلْ إليهن، وأكن من السفهاء الذين يرتكبون الإثم لجهلهم.
فَاسْتَجَابَ لَهُۥ رَبُّهُۥ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ۚ إِنَّهُۥ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
فاستجاب الله ليوسف دعاءه فصرف عنه ما أرادت منه امرأة العزيز وصواحباتها من معصية الله. إن الله هو السميع لدعاء يوسف، ودعاء كل داع مِن خلقه، العليم بمطلبه وحاجته وما يصلحه، وبحاجة جميع خلقه وما يصلحهم.
ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّنۢ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْءَايٰتِ لَيَسْجُنُنَّهُۥ حَتّٰى حِينٍ
ثم ظهر للعزيز وأصحابه -من بعد ما رأوا الأدلة على براءة يوسف وعفته- أن يسجنوه إلى زمن يطول أو يقصر؛ منعًا للفضيحة.
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ ۖ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّىٓ أَرٰىنِىٓ أَعْصِرُ خَمْرًا ۖ وَقَالَ الْءَاخَرُ إِنِّىٓ أَرٰىنِىٓ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ ۖ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِۦٓ ۖ إِنَّا نَرٰىكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
ودخل السجن مع يوسف فَتَيان، قال أحدهما; إني رأيت في المنام أني أعصر عنبًا ليصير خمرًا، وقال الآخر; إني رأيت أني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه، أخبرنا -يا يوسف -بتفسير ما رأينا، إنا نراك من الذين يحسنون في عبادتهم لله، ومعاملتهم لخلقه.
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِۦٓ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِۦ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ۚ ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّىٓ ۚ إِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالْءَاخِرَةِ هُمْ كٰفِرُونَ
قال لهما يوسف; لا يأتيكما طعام ترزقانه في حال من الأحوال إلا أخبرتكما بتفسيره قبل أن يأتيكما، ذلكما التعبير الذي سأعبِّره لكما مما علَّمني ربي؛ إني آمنت به، وأخلصت له العبادة، وابتعدت عن دين قوم لا يؤمنون بالله، وهم بالبعث والحساب جاحدون.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِىٓ إِبْرٰهِيمَ وَإِسْحٰقَ وَيَعْقُوبَ ۚ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ ۚ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
واتبعت دين آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب فعبدت الله وحده، ما كان لنا أن نجعل لله شريكًا في عبادته، ذلك التوحيد بإفراد الله بالعبادة، مما تفضل الله به علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله على نعمة التوحيد والإيمان.
يٰصٰىحِبَىِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوٰحِدُ الْقَهَّارُ
وقال يوسف للفَتَيين اللذين معه في السجن; أعبادةُ آلهةٍ مخلوقة شتى خير أم عبادة الله الواحد القهار؟
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِۦٓ إِلَّآ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطٰنٍ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا إِلَّآ إِيَّاهُ ۚ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
ما تعبدون من دون الله إلا أسماءً لا معاني وراءها، جعلتموها أنتم وآباؤكم أربابًا جهلا منكم وضلالا، ما أنزل الله من حجة أو برهان على صحتها، ما الحكم الحق إلا لله تعالى وحده، لا شريك له، أمر ألا تنقادوا ولا تخضعوا لغيره، وأن تعبدوه وحده، وهذا هو الدين القيم الذي لا عوج فيه، ولكن أكثر الناس يجهلون ذلك، فلا يعلمون حقيقته.